في خضم الجدل الدائر حول استيراد الجامعات الأجنبية كحل لرفع مستوى التعليم، يتصاعد تساؤل محوري: هل تمتلك الجامعات المحلية القدرة على الارتقاء بأدائها ذاتياً؟ يرى البعض أن استيراد الجامعات الأجنبية قد يساعد في نقل التكنولوجيا وتحسين البحث العلمي، لكن هذا النهج يحمل في طياته مخاطر ثقافية واجتماعية قد تفضي إلى تهميش الهوية المحلية. فالتعليم ليس مجرد سلعة تُباع وتُشترى؛ بل هو مسعى حضاري يهدف إلى تنشئة الإنسان وفقًا لهويته الثقافية وقيمه المجتمعية. من هنا، يصبح تطوير التعليم المحلي ضرورة ملحّة، مع التركيز على القيم الثقافية والمجتمعية التي يمكن أن يستوعبها الطلاب وينشروها في محيطهم.
التعليم الجامعي ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة،
بل هو أداة فاعلة في غرس القيم الثقافية والاجتماعية التي تدعم بناء مجتمع قوي
ومتلاحم. وكما أشار عالم الاجتماع إبراهيم خليفة في دراسته حول دور التربية في
بناء الهوية الثقافية، فإن التعليم يسهم في تشكيل وعي الأفراد بالقيم المجتمعية
والمبادئ الأخلاقية. إن تضمين التراث الثقافي والقيم المحلية بعناية في المناهج
الدراسية يمكّن الطلاب من استيعاب هذه القيم ونشرها في مجتمعاتهم، ليصبح الخريجون
بذلك سفراء فاعلين لها في مساراتهم المهنية والاجتماعية. وعلى سبيل المثال، فإن إدراج
الأنشطة المدرسية كالمشاركة في الاحتفالات التقليدية أو تعلم الفنون الشعبية يعزز
الشعور بالفخر بالثقافة المحلية ويسهم في صون التراث.
إلى جانب ذلك، يمكن للجامعات المحلية الارتقاء
بجودة التعليم من خلال تبني استراتيجيات متنوعة تعزز من دورها الأكاديمي والثقافي.
أولاً، يمثل تبني إدارة الجودة الشاملة ركيزة أساسية للتحسين المستمر للأداء
التعليمي، حيث يؤكد إدوارد ديمنج (1900-1993)، رائد حركة إدارة الجودة
الشاملة TQM، على أن تطبيق مبادئها يستلزم
التركيز على التطوير الدائم لكافة جوانب العملية التعليمية. ويعد إنشاء أنظمة
فعالة لرصد الأداء وتحليل البيانات للكشف عن الثغرات ومعالجتها بشكل منتظم خطوة
حيوية في هذا الاتجاه.
ثانياً، يعد تطوير المناهج الدراسية بما يعكس
الأهداف الاستراتيجية للجامعة والقيم الثقافية للمجتمع أمراً جوهرياً. فعلى سبيل
المثال، قامت جامعة الأزهر في مصر بتطوير برامجها لتشمل مواد دراسية تجمع بين
العلوم الحديثة والتراث الإسلامي، مما مكن الطلاب من فهم هويتهم الثقافية بالتوازي
مع اكتساب مهارات أكاديمية متقدمة. وفي أوروبا، تبرز تجربة جامعة هلسنكي في فنلندا
التي تركز على دمج القيم الإنسانية والبيئية في المناهج الدراسية لتعزيز التفكير
النقدي والمسؤولية الاجتماعية لدى الطلاب.
ثالثاً، يمثل الاستثمار في أعضاء هيئة التدريس
أحد أهم العوامل لرفع جودة التعليم. ويمكن تعزيز كفاءتهم من خلال برامج تدريبية
مستمرة وورش عمل تركز على أحدث الاتجاهات التربوية والتقنيات التعليمية. ويُعد
مشروع MORHEL في المغرب مثالاً ناجحًا يهدف إلى تعزيز القيادة الأكاديمية من
خلال تدريب 132 من القادة والمديرين في مؤسسات التعليم العالي المغربية بالشراكة
مع جامعات أوروبية كجامعة غرناطة الإسبانية، وقد أثمر هذا المشروع في تحسين
ممارسات الحوكمة والتخطيط الاستراتيجي داخل تلك المؤسسات.
رابعاً، يعتبر تعزيز البحث العلمي دعامة أساسية
للارتقاء بمستوى التعليم العالي. ويتيح إنشاء مراكز بحثية متخصصة ودعم التعاون بين
الجامعات والمؤسسات الصناعية تطوير حلول مبتكرة تخدم المجتمع المحلي. وتعد تجربة
تونس في إنشاء "مدينة العلوم" كمركز بحثي وتعليمي متكامل مثالاً ناجحًا
على كيفية توظيف البحث العلمي لدعم التنمية الوطنية. وتبرز ألمانيا كنموذج يحتذى
به من خلال برنامج Forschungscampus "فورشونغسكامبوس"، الذي يمثل مبادرة متميزة لتعزيز
شراكات طويلة الأمد بين الجامعات والقطاعات الصناعية بهدف دفع عجلة تطوير
التكنولوجيا والابتكار.
خامساً، أصبح التحول الرقمي ضرورة حتمية لتطوير
العملية التعليمية. ويوفر إنشاء منصات تعليمية رقمية كمنصة "إدراك"
الأردنية للتعليم المفتوح عبر الإنترنت تجربة تعليمية شاملة للطلاب ويعزز التفاعل
بينهم وبين أعضاء هيئة التدريس. وكما أشار تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي حول
التعليم الرقمي، فإن استخدام التقنيات الحديثة يوفر أدوات تقييم فعالة ويسهم في
تحسين جودة العملية التعليمية.
وأخيراً، بدلاً من استيراد الجامعات الأجنبية،
يمكن للجامعات المحلية تعزيز الشراكات الدولية والمحلية لتبادل الخبرات وتصميم
برامج مشتركة دون المساس بالهوية الثقافية للمجتمع المحلي. ويعد التعاون بين جامعة
قطر وجامعة كوليدج لندن لإنشاء برامج تعليمية مشتركة تركز على التحديات البيئية
والتنمية المستدامة مثالاً على ذلك.
إن الارتقاء بجودة التعليم الجامعي لا يتطلب
استيراد الجامعات الأجنبية؛ بل يعتمد على تطوير المناهج الدراسية التي تجسد القيم
الثقافية للمجتمع، ودعم الكوادر الأكاديمية، وتعزيز البحث العلمي مع التركيز على
التحول الرقمي والتنمية المستدامة. فالتعليم ليس مجرد مسعى أكاديمي، بل هو أداة
فاعلة في غرس القيم الثقافية والاجتماعية التي تدعم بناء مجتمع قوي ومتلاحم.
وعندما يتم دمج الثقافة المحلية في التعليم، يصبح الطلاب سفراء لهذه القيم في
مجتمعاتهم، مما يؤدي إلى تعزيز الهوية الوطنية والروابط الاجتماعية واحترام التنوع
الثقافي. وبهذه الطريقة، يمكن للجامعات المحلية تحقيق تقدم ملموس في جودة التعليم
دون الحاجة إلى استيراد نماذج أجنبية قد لا تتوافق مع تطلعات المجتمع وهويته
الحضارية.
أ.د. عماد الدين المصبح
أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي
الرياض-السعودية
0 comments:
إرسال تعليق