بحث في هذه المدونة

أبعد من الاستيراد: بناء جامعات وطنية بمعايير عالمية وروح محلية

 

في خضم الجدل الدائر حول استيراد الجامعات الأجنبية كحل لرفع مستوى التعليم، يتصاعد تساؤل محوري: هل تمتلك الجامعات المحلية القدرة على الارتقاء بأدائها ذاتياً؟ يرى البعض أن استيراد الجامعات الأجنبية قد يساعد في نقل التكنولوجيا وتحسين البحث العلمي، لكن هذا النهج يحمل في طياته مخاطر ثقافية واجتماعية قد تفضي إلى تهميش الهوية المحلية. فالتعليم ليس مجرد سلعة تُباع وتُشترى؛ بل هو مسعى حضاري يهدف إلى تنشئة الإنسان وفقًا لهويته الثقافية وقيمه المجتمعية. من هنا، يصبح تطوير التعليم المحلي ضرورة ملحّة، مع التركيز على القيم الثقافية والمجتمعية التي يمكن أن يستوعبها الطلاب وينشروها في محيطهم.

التعليم الجامعي ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو أداة فاعلة في غرس القيم الثقافية والاجتماعية التي تدعم بناء مجتمع قوي ومتلاحم. وكما أشار عالم الاجتماع إبراهيم خليفة في دراسته حول دور التربية في بناء الهوية الثقافية، فإن التعليم يسهم في تشكيل وعي الأفراد بالقيم المجتمعية والمبادئ الأخلاقية. إن تضمين التراث الثقافي والقيم المحلية بعناية في المناهج الدراسية يمكّن الطلاب من استيعاب هذه القيم ونشرها في مجتمعاتهم، ليصبح الخريجون بذلك سفراء فاعلين لها في مساراتهم المهنية والاجتماعية. وعلى سبيل المثال، فإن إدراج الأنشطة المدرسية كالمشاركة في الاحتفالات التقليدية أو تعلم الفنون الشعبية يعزز الشعور بالفخر بالثقافة المحلية ويسهم في صون التراث.

"جامعة حديثة بواجهة زجاجية أو تصميم هندسي معاصر، تقع بجوار معلم أثري أو نصب وطني معروف في المدينة. في الساحة الأمامية، طلاب من خلفيات متنوعة يتبادلون الحديث أو يشاركون في نشاط ثقافي، بينما تظهر في الخلفية تفاصيل المعلم التاريخي بوضوح، ليعكس المشهد التفاعل بين الحداثة الأكاديمية والهوية الوطنية.".png

إلى جانب ذلك، يمكن للجامعات المحلية الارتقاء بجودة التعليم من خلال تبني استراتيجيات متنوعة تعزز من دورها الأكاديمي والثقافي. أولاً، يمثل تبني إدارة الجودة الشاملة ركيزة أساسية للتحسين المستمر للأداء التعليمي، حيث يؤكد إدوارد ديمنج (1900-1993)، رائد حركة إدارة الجودة الشاملة TQM، على أن تطبيق مبادئها يستلزم التركيز على التطوير الدائم لكافة جوانب العملية التعليمية. ويعد إنشاء أنظمة فعالة لرصد الأداء وتحليل البيانات للكشف عن الثغرات ومعالجتها بشكل منتظم خطوة حيوية في هذا الاتجاه.

ثانياً، يعد تطوير المناهج الدراسية بما يعكس الأهداف الاستراتيجية للجامعة والقيم الثقافية للمجتمع أمراً جوهرياً. فعلى سبيل المثال، قامت جامعة الأزهر في مصر بتطوير برامجها لتشمل مواد دراسية تجمع بين العلوم الحديثة والتراث الإسلامي، مما مكن الطلاب من فهم هويتهم الثقافية بالتوازي مع اكتساب مهارات أكاديمية متقدمة. وفي أوروبا، تبرز تجربة جامعة هلسنكي في فنلندا التي تركز على دمج القيم الإنسانية والبيئية في المناهج الدراسية لتعزيز التفكير النقدي والمسؤولية الاجتماعية لدى الطلاب.

ثالثاً، يمثل الاستثمار في أعضاء هيئة التدريس أحد أهم العوامل لرفع جودة التعليم. ويمكن تعزيز كفاءتهم من خلال برامج تدريبية مستمرة وورش عمل تركز على أحدث الاتجاهات التربوية والتقنيات التعليمية. ويُعد مشروع MORHEL في المغرب مثالاً ناجحًا يهدف إلى تعزيز القيادة الأكاديمية من خلال تدريب 132 من القادة والمديرين في مؤسسات التعليم العالي المغربية بالشراكة مع جامعات أوروبية كجامعة غرناطة الإسبانية، وقد أثمر هذا المشروع في تحسين ممارسات الحوكمة والتخطيط الاستراتيجي داخل تلك المؤسسات.

رابعاً، يعتبر تعزيز البحث العلمي دعامة أساسية للارتقاء بمستوى التعليم العالي. ويتيح إنشاء مراكز بحثية متخصصة ودعم التعاون بين الجامعات والمؤسسات الصناعية تطوير حلول مبتكرة تخدم المجتمع المحلي. وتعد تجربة تونس في إنشاء "مدينة العلوم" كمركز بحثي وتعليمي متكامل مثالاً ناجحًا على كيفية توظيف البحث العلمي لدعم التنمية الوطنية. وتبرز ألمانيا كنموذج يحتذى به من خلال برنامج Forschungscampus "فورشونغسكامبوس"، الذي يمثل مبادرة متميزة لتعزيز شراكات طويلة الأمد بين الجامعات والقطاعات الصناعية بهدف دفع عجلة تطوير التكنولوجيا والابتكار.

خامساً، أصبح التحول الرقمي ضرورة حتمية لتطوير العملية التعليمية. ويوفر إنشاء منصات تعليمية رقمية كمنصة "إدراك" الأردنية للتعليم المفتوح عبر الإنترنت تجربة تعليمية شاملة للطلاب ويعزز التفاعل بينهم وبين أعضاء هيئة التدريس. وكما أشار تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي حول التعليم الرقمي، فإن استخدام التقنيات الحديثة يوفر أدوات تقييم فعالة ويسهم في تحسين جودة العملية التعليمية.

وأخيراً، بدلاً من استيراد الجامعات الأجنبية، يمكن للجامعات المحلية تعزيز الشراكات الدولية والمحلية لتبادل الخبرات وتصميم برامج مشتركة دون المساس بالهوية الثقافية للمجتمع المحلي. ويعد التعاون بين جامعة قطر وجامعة كوليدج لندن لإنشاء برامج تعليمية مشتركة تركز على التحديات البيئية والتنمية المستدامة مثالاً على ذلك.



إن الارتقاء بجودة التعليم الجامعي لا يتطلب استيراد الجامعات الأجنبية؛ بل يعتمد على تطوير المناهج الدراسية التي تجسد القيم الثقافية للمجتمع، ودعم الكوادر الأكاديمية، وتعزيز البحث العلمي مع التركيز على التحول الرقمي والتنمية المستدامة. فالتعليم ليس مجرد مسعى أكاديمي، بل هو أداة فاعلة في غرس القيم الثقافية والاجتماعية التي تدعم بناء مجتمع قوي ومتلاحم. وعندما يتم دمج الثقافة المحلية في التعليم، يصبح الطلاب سفراء لهذه القيم في مجتمعاتهم، مما يؤدي إلى تعزيز الهوية الوطنية والروابط الاجتماعية واحترام التنوع الثقافي. وبهذه الطريقة، يمكن للجامعات المحلية تحقيق تقدم ملموس في جودة التعليم دون الحاجة إلى استيراد نماذج أجنبية قد لا تتوافق مع تطلعات المجتمع وهويته الحضارية.

 

أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي

الرياض-السعودية

صندوق مساعدة دولي: فكرة مبتكرة لدعم إعادة إعمار سوريا رغم العقوبات

 

" في عالم مليء بالتحديات المعقدة، يجب أن نبحث دائمًا عن حلول مبتكرة تتجاوز العقبات وتضع الإنسان أولاً."

 

في ظل الدمار الهائل الذي خلفته سنوات الحرب الطويلة في سوريا، تتطلب عملية إعادة الإعمار حلولًا مبتكرة تتجاوز العقبات السياسية والاقتصادية التي تعيق التقدم. من بين أبرز التحديات التي تواجه هذه العملية هي العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، والتي تشمل قيودًا صارمة على البنك المركزي السوري وخروجه من نظام التحويلات العالمي (SWIFT). هذه العقوبات تجعل من الصعب تأمين التمويل اللازم لإعادة بناء القطاعات الحيوية مثل الكهرباء، الاتصالات، الصحة، والتعليم. وفي مواجهة هذه التحديات، تبرز فكرة إنشاء صندوق مساعدة دولي في دول الجوار كحل عملي وفعّال.

الأزمة السورية: الحاجة إلى حلول عاجلة

 اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، تعرضت البنية التحتية للبلاد لدمار شامل أثر على جميع مناحي الحياة. فقطاع الكهرباء، الذي يُعد شريان الحياة لأي دولة، يعاني من خسائر فادحة تُقدر بنحو 35 مليار دولار (انقرهنا)، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر وشلل تام في الخدمات الأساسية التي تعتمد عليه. أما قطاع الصحة، فالوضع لا يقل كارثية؛ حيث تضررت المستشفيات والمراكز الصحية بشدة، وأصبح 57% فقط من المستشفيات تعمل بكامل طاقتها، و37% فقط من المراكز الصحية الأولية (انقرهنا)، مما جعل الحصول على الرعاية الصحية تحديًا يوميًا يواجهه المواطنون. وفي قطاع التعليم، تتجلى المأساة في حرمان ملايين الأطفال من حقهم الأساسي في التعليم؛ فبسبب تدمير المنشآت التعليمية أو نقص الموارد اللازمة لتشغيلها، يُقدر عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس بحوالي 2.45 مليون طفل(انقرهنا) (انقر هنا).



ورغم أن الحاجة إلى إعادة الإعمار واضحة وملحة، إلا أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا تزيد من صعوبة تحقيق هذا الهدف. القيود المفروضة على البنك المركزي السوري تجعل من المستحيل تقريبًا إجراء التحويلات المالية الدولية لتمويل مشاريع إعادة الإعمار، مما يترك البلاد في حلقة مفرغة من التدهور الاقتصادي والاجتماعي وربما الأمني أيضاً.

الفكرة: صندوق مساعدة دولي يتجاوز العقوبات

في مواجهة هذه التحديات المعقدة، تأتي فكرة إنشاء صندوق مساعدة دولي في دول الجوار كوسيلة لتجاوز العقوبات ودعم عملية إعادة الإعمار. يقوم هذا الصندوق بجمع الأموال من جهات مانحة دولية ومحلية، سواء كانت حكومات أو منظمات غير حكومية أو أفراد راغبين في المساهمة. يتم استخدام هذه الأموال لشراء المواد والمعدات اللازمة لإعادة بناء القطاعات الحيوية مثل الكهرباء والاتصالات والصحة والتعليم.



ما يجعل هذه الفكرة مبتكرة هو أنها تعتمد على إدخال المواد والمساعدات عبر المنافذ البرية إلى سوريا بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية. هذا النهج يتيح الالتفاف على القيود المفروضة على التحويلات المالية الدولية ويضمن وصول الدعم مباشرة إلى المناطق التي تحتاجه دون المرور عبر القنوات الرسمية المتأثرة بالعقوبات.

التنفيذ: الشفافية والشراكة

لضمان نجاح هذه الفكرة وتحقيق أهدافها الإنسانية والتنموية، يجب أن يتم تنفيذها وفق معايير صارمة من الشفافية والمساءلة. يمكن تحقيق ذلك من خلال التعاون الوثيق مع منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية التي تتمتع بمصداقية وخبرة في إدارة المشاريع الإنسانية. كما ينبغي إنشاء آليات رقابة لضمان استخدام الأموال بطريقة فعالة وموجهة نحو تحقيق الأهداف المحددة.

علاوة على ذلك، يمكن أن تلعب دول الجوار دورًا رئيسيًا في دعم هذا الصندوق، ليس فقط كمضيفين له ولكن أيضًا كشركاء استراتيجيين يساهمون في تسهيل العمليات اللوجستية وتوفير المواد اللازمة بأسعار تنافسية.

التأثير المتوقع: خطوة نحو التعافي

إذا تم تنفيذ هذه الفكرة بنجاح، فإنها يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا في حياة ملايين السوريين الذين يعانون يوميًا بسبب نقص الخدمات الأساسية. تحسين قطاع الكهرباء سيعيد تشغيل المصانع والمستشفيات والمدارس، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويخلق فرص عمل جديدة. دعم القطاع الصحي سيضمن حصول المواطنين على الرعاية الطبية التي يحتاجونها بشدة. أما الاستثمار في التعليم فسيعيد الأمل لجيل كامل من الأطفال الذين حُرموا من حقهم الأساسي في التعلم.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون هذا النموذج مصدر إلهام لحلول أخرى تتجاوز العقوبات وتضع مصالح الشعوب فوق كل الاعتبارات.

 

 

المعابر الحدودية السورية: تحديات وآفاق

 

في أعقاب سقوط نظام الأسد، تقف سوريا على مفترق طرق تاريخي يتيح لها فرصة فريدة لإعادة تشكيل مستقبلها الاقتصادي. وتبرز إعادة تأهيل المعابر الحدودية كأولوية قصوى في هذا المسعى، حيث تمثل هذه البوابات نقطة الانطلاق نحو الاندماج في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.

لقد عانت المعابر السورية طويلاً من سوء الاستخدام، حيث كانت تُستغل كقنوات لتهريب المخدرات تحت حكم النظام السابق. اليوم، يتعين على سوريا تحويل هذه المنافذ إلى محركات للتنمية الاقتصادية والتجارة المشروعة. هذا التحول يتطلب نهجاً شاملاً يعالج البنية التحتية والتكنولوجيا والموارد البشرية على حد سواء.

تحتاج المعابر السورية إلى إعادة بناء جذرية لبنيتها التحتية، بدءاً من الطرق والجسور وصولاً إلى المرافق اللوجستية. ويجب أن يتماشى هذا التحديث مع المعايير الدولية لضمان انسيابية حركة البضائع والأشخاص. كما أن تطبيق التكنولوجيا الحديثة، مثل أنظمة إدارة الحدود المتكاملة وأنظمة معلومات إدارة الحدود، سيكون حاسماً في تسريع عمليات التفتيش والتخليص الجمركي.


لا يقل أهمية عن ذلك تأهيل الكوادر البشرية العاملة في هذه المعابر. فتدريب الموظفين في مجالات الجمارك والأمن والخدمات اللوجستية، مع التركيز على مكافحة الفساد وتعزيز الكفاءة، سيكون ضرورياً لضمان عمل هذه المنافذ بفعالية. كما يتعين وضع إطار قانوني وتنظيمي جديد يتماشى مع المعايير الدولية لتسهيل التجارة وضمان الأمن.

يمكن لسوريا أن تستلهم من نماذج المعابر الحدودية المتطورة في الدول الرائدة في تجارة الترانزيت. فتطبيق مفاهيم مثل نقاط العبور الحدودية الموحدة وأنظمة النافذة الواحدة وبرامج المشغل الاقتصادي المعتمد من شأنه أن يعزز كفاءة العمليات الحدودية بشكل كبير.

إن نجاح سوريا في تحديث معابرها الحدودية سيكون له آثار إيجابية عميقة على اقتصادها. فمن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في حجم التجارة الخارجية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز مكانة سوريا كمركز إقليمي لتجارة الترانزيت. كما سيساهم في خلق فرص عمل جديدة وتحسين الإيرادات الحكومية من خلال تحصيل جمركي أكثر كفاءة.

نعيد التأكيد على إن إعادة تأهيل المعابر الحدودية السورية تمثل فرصة حاسمة لإعادة إدماج البلاد في الاقتصاد العالمي وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تنطوي عليها هذه العملية، فإن النجاح في هذا المسعى سيكون حجر الزاوية في بناء مستقبل اقتصادي مزدهر لسوريا، محولاً إياها من بلد منهك بالصراعات إلى لاعب إقليمي فاعل في مجال التجارة والترانزيت.

أ.د. عماد الدين المصبح

أكاديمي سوري

مفارقة المحاور: لماذا يقف السعر عموديًا في رسوم الاقتصاد الجزئي؟

 اللقاء الأول مع منحنى الطلب

لكل من يخطو خطواته الأولى في عالم الاقتصاد الجزئي، وخاصة عند دراسة العرض والطلب، هناك لحظة توقف ودهشة. عند رسم العلاقة بين السعر والكمية، نجد أنفسنا أمام تقليد راسخ يبدو للوهلة الأولى متعارضًا مع المنطق الرياضي المعتاد الذي تعلمناه: السعر (Price - P)، الذي غالبًا ما نفكر فيه كمؤثر أو متغير مستقل، يوضع على المحور الرأسي (Y)، بينما الكمية (Quantity - Q)، التي تتأثر بالسعر وتعتبر المتغير التابع، توضع على المحور الأفقي (X). لماذا هذا الانعكاس لما هو مألوف في الرياضيات والعلوم الأخرى، حيث يوضع المتغير المستقل أفقيًا والتابع رأسيًا؟

أصل المشكلة: جذور تاريخية ومنطق مختلف

لفهم هذه "المفارقة"، يجب أن نعود بالزمن إلى الوراء، تحديدًا إلى أواخر القرن التاسع عشر وإلى أحد أعمدة علم الاقتصاد الحديث: ألفريد مارشال (Alfred Marshall). في كتابه المؤثر والصادر عام 1890، "مبادئ الاقتصاد" (Principles of Economics)، والذي شكل مرجعًا أساسيًا لعقود طويلة، قام مارشال بترسيخ استخدام الرسوم البيانية لتوضيح نظريات العرض والطلب والتوازن.

هنا تكمن نقطة التحول. على عكس ما قد نفترضه اليوم (أن الكمية المطلوبة أو المعروضة هي التي تعتمد على السعر)، يبدو أن مارشال، في سياق معين على الأقل، كان يفكر في الأمر من زاوية مختلفة. يُعتقد أنه كان ينظر إلى السعر كمتغير تابع في سياق الإنتاج والعرض. أي أنه كان يتساءل: ما هو السعر اللازم لكي يكون المنتجون مستعدين لعرض كمية معينة في السوق؟ أو، من جانب الطلب، ما هو السعر الذي يجب أن يصل إليه الشيء لكي يرغب المستهلكون في شراء كمية محددة منه؟

بهذا المنطق، يصبح السعر (P) هو المتغير الذي يتكيف أو يتحدد بناءً على الكمية (Q) المرغوب إنتاجها أو استهلاكها. ووفقًا للتقليد الرياضي (حتى في ذلك الوقت كان وضع المتغير التابع رأسيًا هو الأكثر شيوعًا)، وضع مارشال السعر على المحور الرأسي (Y) والكمية على المحور الأفقي (X).

استمرارية التقليد: لماذا بقي الوضع على ما هو عليه؟

رغم أن المنطق الأكثر شيوعًا اليوم في تفسير دوال الطلب والعرض هو أن الكمية تابعة للسعر

مما يجعل وضع المحاور الحالي يبدو "خاطئًا" من الناحية الرياضية الصرفة، إلا أن تقليد مارشال استمر وتجذر لأسباب عدة:

  1. التأثير الهائل لمارشال وكتابه: كان كتاب "مبادئ الاقتصاد" لمارشال هو النص المهيمن لعقود، وتخرجت أجيال من الاقتصاديين وهم يستخدمون رسومه البيانية بهذا الشكل. أصبح هذا هو "الطبيعي" والمتعارف عليه في المهنة.
  2. الاعتماد على المسار التاريخي (Path Dependency): بمجرد أن يصبح تقليد ما هو المعيار، يصبح تغييره صعبًا ومكلفًا. يتطلب الأمر إعادة تعلم وتكييف للجميع، وإعادة طباعة للمناهج والكتب.
  3. القصور الذاتي التعليمي: يعلم الأساتذة بالطريقة التي تعلموا بها، والكتب الدراسية تتبع التقليد السائد لضمان القبول الواسع.
  4. الفعالية العملية: على الرغم من "الغرابة" النظرية، فإن هذه الرسوم البيانية تعمل بشكل جيد جدًا في تحليل الأسواق. فهي تسمح بسهولة برؤية توازن السوق، وفائض المستهلك والمنتج، وتأثيرات الضرائب والإعانات، وتحليل المرونات. الأداة، وإن كانت غير تقليدية في شكلها، فعالة في وظيفتها التحليلية.
  5. وجهة النظر البديلة: في بعض التحليلات المتقدمة (مثل دوال الطلب أو العرض العكسية حيث

يكون وضع السعر على المحور الرأسي منطقيًا تمامًا حتى من الناحية الرياضية.

  1. لغة مشتركة: أصبح هذا الرسم لغة بصرية موحدة يفهمها الاقتصاديون حول العالم. وقد يحدث تغييرها بلبلة أكثر مما يحل مشكلة.

رأي مانكيو والاقتصاديين المعاصرين (راجع هنا):

جريجوري مانكيو (N. Gregory Mankiw)، مؤلف أحد أشهر الكتب الدراسية في مبادئ الاقتصاد المستخدمة عالميًا اليوم، هو مثال جيد لكيفية تعامل الاقتصاديين المعاصرين مع هذا الإرث.

  • يتبع التقليد: في كتابه "مبادئ الاقتصاد الجزئي" (Principles of Microeconomics)، يضع مانكيو السعر (P) على المحور الرأسي والكمية (Q) على المحور الأفقي، تمامًا كما فعل مارشال وكما يفعل الغالبية العظمى من الاقتصاديين.
  • يعترف بالمفارقة: مانكيو، مثل العديد من المؤلفين الجيدين، لا يتجاهل الأمر. عادة ما يشير، ربما في حاشية أو مربع نصي، إلى أن هذا الوضع "غير معتاد" مقارنة بالرياضيات، حيث يكون المتغير المستقل عادة على المحور الأفقي.
  • يشرح السبب: يوضح أن هذا التقليد يعود إلى ألفريد مارشال وأسباب تاريخية. هو لا يجادل في صحة التقليد من عدمه، بل يقدمه كـ "عرف" قائم في علم الاقتصاد يجب على الطالب تعلمه وفهمه كما هو.
  • يركز على التطبيق: ينصب تركيز مانكيو وغيره من مؤلفي الكتب الدراسية على تعليم الطلاب كيفية استخدام هذه الرسوم البيانية كأدوات لتحليل المشاكل الاقتصادية، وليس على إصلاح "خطأ" تاريخي.

بشكل عام، يقبل معظم الاقتصاديين اليوم هذا الوضع كأمر واقع وجزء من لغة تخصصهم. قد يعلق البعض على المفارقة بابتسامة، لكن قلة قليلة تدعو بجدية لتغيير هذا التقليد الراسخ بسبب تكاليف التحول وعدم وجود فائدة عملية كبيرة من التغيير طالما أن الجميع يفهم المقصود.

إذًا، وضع السعر على المحور الرأسي والكمية على المحور الأفقي في رسوم العرض والطلب ليس خطأً مطبعيًا أو سوء فهم، بل هو إرث تاريخي يعود إلى ألفريد مارشال ومنطقه الخاص في وقته. ورغم أنه قد يبدو متعارضًا مع الممارسة الرياضية القياسية عند النظر إلى الكمية كدالة للسعر، فقد أصبح هذا التقليد هو المعيار المقبول والمستخدم عالميًا في علم الاقتصاد لفعاليته العملية وقوة العادة. الاعتراف بهذا الأصل التاريخي يساعد الطلاب والممارسين على تجاوز الارتباك الأولي والتركيز على استخدام هذه الأداة القوية لفهم كيف تعمل الأسواق.



 أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد الكلي والقياسي


 العصبية: حجر الزاوية في صعود الدول وسقوطها - نظرة في فكر ابن خلدون

لا يزال فكر ابن خلدون يمثل منارةً تضيء لنا دروب فهم التاريخ السياسي والاجتماعي، خاصةً عندما يتعلق الأمر بدورة حياة الدول ونشأتها. ففي قلب نظريته، يبرز مفهوم "العصبية" كعامل محوري لا يمكن تجاهله عند تحليل كيفية قيام الدول وتطورها. تسعى هذه السطور إلى استكشاف دور العصبية في نشأة الدول وتعزيز شوكتها، وفقًا لما يطرحه ابن خلدون، مع إبراز أهمية هذا المفهوم في فهمنا المعاصر للديناميكيات السياسية.

تُعرّف العصبية بأنها الروابط الاجتماعية القوية التي تجمع الأفراد، سواء كانت هذه الروابط قائمة على القرابة، القبيلة، الدين، أو حتى المصالح المشتركة. هذا التعريف العميق يتجاوز مجرد الانتماء القبلي الضيق، ليشمل كل ما يُشكل شعورًا بالوحدة والهدف المشترك بين أفراد الجماعة. وهذه الوحدة، هي المحرك الأساسي لنشوء الدول.

فالعصبية، في جوهرها، هي قوة تضافر الجهود وتوحيد الصفوف. عندما تمتلك جماعة ما عصبية قوية، تصبح قادرة على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية بفاعلية أكبر. هذا التوحيد يظهر جليًا في القدرة على تشكيل جيش قوي للدفاع عن الأرض والمصالح، وفي تأسيس سلطة سياسية تعبر عن إرادة الجماعة ومصالحها. هذه السلطة، المدعومة بروابط عصبية متينة، تكون أكثر استقرارًا ورسوخًا، وتستطيع أن تنال شرعية أوسع من الشعب، مما يسهل عملية توسيع نفوذ الدولة وترسيخ أركانها.

لا يقتصر دور العصبية على مرحلة النشأة فحسب، بل يمتد تأثيرها ليشمل تعزيز شوكة الدولة واستمرار قوتها. فالعصبية القوية تُرسخ الاستقرار الاجتماعي، حيث يشعر الأفراد بالانتماء إلى كيان قوي يحميهم ويمثلهم. هذا الاستقرار يُسهل تطبيق القوانين ويقلل من الفوضى والاضطرابات، مما يوفر بيئة مواتية للتنمية والازدهار. كما أن الولاء الناتج عن العصبية يجعل الأفراد أكثر استعدادًا للدفاع عن دولتهم، والتجنيد في القوات المسلحة يصبح أسهل وأكثر فعالية، مما يعزز من قدرة الدولة على مواجهة التهديدات الخارجية. ولا ننسى دور العصبية في تسهيل إقامة التحالفات مع جماعات أخرى، مما يوسع من دائرة نفوذ الدولة ويعزز من قوتها الإقليمية والدولية.

إلا أن الفكر الخلدوني لا يغفل الجانب الآخر من الصورة، فيشير بوضوح إلى أن العصبية، على الرغم من إيجابياتها، قد تتحول إلى عامل هدم إذا تفككت الروابط الاجتماعية أو تعرضت للاختبارات الشديدة. ففي هذه الحالة، تظهر الفتن والنزاعات الداخلية التي تُضعف الدولة وتُمهد لسقوطها. وهذا يؤكد على أن العصبية ليست مجرد قوة دافعة في مرحلة النشأة، بل هي عامل حيوي يجب الحفاظ عليه وتنميته لضمان استدامة الدولة وقوتها.

وهكذا يتبين لنا أن العصبية تلعب دورًا جوهريًا في نشأة الدول وتعزيز شوكتها. إنها القوة الدافعة التي توحد الجماعات وتمكنها من تأسيس السلطة وتحقيق الاستقرار والازدهار. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن العصبية ليست عصا سحرية، بل هي عامل اجتماعي وسياسي معقد، يتطلب فهمًا عميقًا وإدارة حكيمة لضمان استمرار دوره الإيجابي في بناء الدول القوية والمستقرة. إن إحياء الوعي بأهمية العصبية، بمعناها الواسع الذي يشمل الوحدة والهدف المشترك، يظل ضروريًا لفهم تحديات بناء الدول المعاصرة وتجاوزها.


 


العلاقات السورية الروسية في مرحلة ما بعد الأسد: الديون كأداة ضغط واستراتيجيات المواجهة

أ.د. عماد الدين المصبح

أحدث سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 تحولاً جوهرياً في المشهد الجيوسياسي السوري، لا سيما في علاقات دمشق مع حلفائها التقليديين، وعلى رأسهم روسيا وإيران. تُقدَّر الديون المترتبة على النظام السابق بنحو 30 مليار دولار، وفق تصريحات وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذه الديون على سياسات النظام الجديد، وإمكانية تحوُّلها إلى ورقة ضغط من قبل الدائنين. تبرز هنا إشكالية رئيسية: كيف يمكن للحكومة الانتقالية التعامل مع إرث الديون الثقيل مع الحفاظ على سيادتها وبناء شرعيتها الداخلية والخارجية؟

الإطار التاريخي للديون السورية: من التحالف إلى الأزمة

طبيعة الديون وأسباب تراكمها

تشكل الديون السورية لروسيا وإيران نتاجاً لسنوات من التحالف الاستراتيجي الذي بدأ مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. فبينما قدمت إيران دعماً عسكرياً مباشراً عبر ميليشياتها، تدخلت روسيا عسكرياً عام 2015 لحماية النظام. تحول هذا الدعم إلى ديون مالية ضخمة، قُدِّرت بحوالي 30 مليار دولار، تشمل قروضاً نقدية، واتفاقيات استيراد نفط مدعوم، وتوريد أسلحة. وفقاً لوثائق مسربة، استخدمت هذه الأموال لدعم آلة القمع، بدلاً من تطوير البنية التحتية أو الخدمات العامة.

البعد الجيوسياسي للديون

لا تقتصر هذه الديون على بعدها المالي، بل تُعتبر أداةً للهيمنة السياسية. فروسيا تسعى للحفاظ على وجودها العسكري عبر قاعدتي حميميم وطرطوس، بينما تطالب إيران باسترداد استثماراتها عبر السيطرة على قطاعات استراتيجية كالنفط والفوسفات. وفقاً لتصريحات مسؤولين إيرانيين، فإن طهران تعتبر الديون "حقاً شرعياً" بموجب مبدأ خلافة الدول في القانون الدولي، وهو ما يضع النظام الجديد أمام تحدٍّ قانوني وسياسي معاً.

الديون كأداة ضغط: بين المطالب الروسية والإيرانية

الموقف الروسي: التفاوض مقابل المصالح الاستراتيجية

تبدو موسكو أكثر مرونةً مقارنةً بطهران في تعاملها مع الملف. فزيارة الوفد الروسي الرفيع إلى دمشق في يناير 2025 أكدت سعي الجانبين لإعادة تعريف العلاقة على أساس "المصالح المشتركة" تشمل المقترحات الروسية مقايضة الديون بالحفاظ على القواعد العسكرية، أو تحويلها إلى استثمارات في قطاعات كالنقل والطاقة. لكنَّ هذا النهج يواجه معارضةً داخليةً سورية، حيث يرى خبراء اقتصاديون أن الاتفاقيات الروسية السابقة "جائرة" وتنتهك السيادة الوطنية.

الموقف الإيراني: التشدد في المطالبة بالسداد

على النقيض، تصر طهران على سداد الديون كاملةً، مُستندةً إلى اتفاقيات وقعها النظام السابق. بلغت السجالات ذروتها مع تصريح رئيس لجنة الأمن القومي الإيرانية السابق بأن "أي حكومة جديدة ملزمة بسداد 30 مليار دولار. لكنَّ الوثائق المسربة تكشف أن إدراك طهران بصعوبة استرداد الأموال دفعها لابتكار آليات بديلة، مثل الحصول على أسهم في الموانئ والمناجم. يُنظر إلى هذا النهج كامتداد لسياسة الهيمنة الاقتصادية التي مارستها إيران خلال حكم الأسد.

استراتيجيات المواجهة: بين الشرعية القانونية والإصلاح الاقتصادي

الطعن القانوني في شرعية الديون

تُعتبر فكرة "الديون الكريهة" (Odious Debt) حجر الزاوية في الجهد القانوني السوري. ينص هذا المبدأ على أن الديون المُكتَسَبة دون موافقة الشعب، والمستخدمة ضد مصالحه، لا تلزم الحكومات اللاحقة. وقد طبَّقت دول مثل روسيا الثورية 1917 هذا المبدأ لإلغاء ديون القيصر. في السياق السوري، يمكن الاستناد إلى أن النظام السابق فقد شرعيته منذ 2011، وفق قرارات الأمم المتحدة، وأن الديون استُخدمت لقمع المدنيين.

إعادة التفاوض والشراكات الدولية

تسعى دمشق إلى توظيف الدعم الدولي الناشئ بعد سقوط الأسد. ففي منتدى دافوس 2025، طالب الشيباني برفع العقوبات الغربية كشرطٍ للتعافي الاقتصادي، وهو ما قد يمهد لإعادة هيكلة الديون عبر مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي. كذلك، تدرس الحكومة خصخصة الموانئ والمصانع الحكومية لجذب الاستثمارات، مما قد يوفر سيولةً لسداد الديون بشكلٍ تدريجي.

التحديات الداخلية: شرعية النظام ودور المجتمع السوري

بناء الشرعية عبر المواجهة الاقتصادية

يواجه النظام الجديد معضلةً ثلاثية الأبعاد: تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مواجهة الضغوط الخارجية، وكسب ثقة الشعب. وفقاً لاستطلاعات محلية، يُعتبر رفض "إرث الأسد المالي" مطلباً شعبياً جامعاً. هنا، يمكن توظيف الخطاب الوطني لتعزيز الشرعية، عبر التأكيد على رفض التبعية الخارجية وبناء اقتصادٍ منتج.

تعبئة المجتمع المدني كضغط مضاد

برزت مبادرات من منظمات حقوقية سورية لتوثيق انتهاكات النظام السابق وحلفائه، كأساسٍ قانوني لرفض السداد. كما طالب ناشطون بمحاكمة النظامين الإيراني والروسي أمام محاكم دولية بتهمة تمويل جرائم حرب. هذه الضغوط قد تعزز الموقف التفاوضي للسوريين، لا سيما مع تصاعد الدعم الغربي الرسمي للحكومة الانتقالية.

الخاتمة: نحو استراتيجية متكاملة

تبقى الديون السورية أداة ضغطٍ ذات حدين: فبينما تهدد باستمرار التبعية لمراكز القوى الخارجية، فإنها تتيح فرصةً لإعادة تعريف العلاقات الإقليمية والدولية على أسسٍ جديدة. يتطلب التعامل معها نهجاً يجمع بين الحلول القانونية (الطعن بالديون الكريهة)، والإصلاح الاقتصادي (جذب الاستثمارات)، والدبلوماسية النشطة (إشراك المجتمع الدولي). في النهاية، سيُحدد موقف المجتمع السوري وقدرته على فرض روايته حول هذه الديون مصيرَ المرحلة الانتقالية برمَّتها.

 

محاضرة تحويل السلاسل الزمنية منخفضة التردد الى عالية التردد

 ألقيت هذه المحاضرة فيجامعه الأميرة نورة في مطلع عام 2023 بخصوص تحويل السلاسل الزمنية منخفضة التردد إلى سلاسل زمنية مرتفعة التردد

مع الشكر للزملاء في قسم الاقتصاد على خطاب الشكر الذي تفضلوا به





المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة