انحراف
الحوافز: حينما تُسفر القواعد عن وجهها الملتوي
من
ميادين الرياضة إلى دهاليز السلوك الاقتصادي
أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي (الرياض)
في
منعطف غريب من مسارات التنافس، وأمام أعين المشاهدين المندهشين، قد تتكشف مفارقات
تكاد لا تُصدق، حيث يُقدم المرء على فعل يناقض ظاهره المنطق السليم. لم يكن جنونًا
عابرًا ما دفع فريق كرة قدم في عام 1994، في خضم تصفيات مصيرية، إلى هز شباك مرماه
عمدًا. بل كانت تلك استجابة "محسوبة" لقاعدة تنظيمية مشوّهة، منحت
أفضلية غريبة للفوز بفارق هدفين في الأشواط الإضافية. بهذا الهدف العكسي، جرّ
الفريق المباراة إلى تعادل قسري، ثم إلى وقت إضافي حسم فيه التأهل لصالحه. هذه
الواقعة، وإن بدت طرفة رياضية، تفتح الباب على مصراعيه أمام ظاهرة أعمق وأشد
تأثيرًا، تُعرف في أدبيات الاقتصاد السلوكي والإدارة بـ "انحراف
الحوافز" (Incentive Misalignment).
إنه ذلك المفهوم الذي يفسر كيف يمكن للحوافز، تلك
الأدوات المصممة ظاهريًا لتحقيق غايات نبيلة، أن تنحرف بالسلوك البشري، وتدفع
الأفراد والمؤسسات نحو دروب غير متوقعة، غالبًا ما تصطدم بجوهر القصد الأصلي. هذا
المقال يغوص في تلافيف هذه الظاهرة، مستجليًا أبعادها، ومستعرضًا تجلياتها
الصارخة، ومستخلصًا العبر اللازمة لصياغة واقع أكثر حصافة ونجاعة.
انحراف
الحوافز: تشريح الظاهرة وأبعادها الخفية
في
صميم مفهوم انحراف الحوافز، تكمن تلك الهوة الفاصلة بين الغاية المُعلنة
لنظام التحفيز (ما يُطمح إلى إنجازه) والاستجابة الفعلية للفاعلين (ما
يُقدمون عليه واقعًا). هذه الظاهرة ليست محض خطأ عابر، بل هي نتاج لتفاعل مركب بين
بنية النظام وديناميكيات السلوك الإنساني، ويمكن أن تتخذ تجليات متباينة:
- قصور التصميم (Design Flaws):
هنا، يكمن العطب في صلب القواعد
ذاتها. قد يكون واضعو النظام، تحت تأثير ما أسماه هربرت سايمون "العقلانية
المحدودة" (Bounded Rationality)، قد أغفلوا بعض السيناريوهات المحتملة،
أو ركزوا على مؤشرات أداء ضيقة، مما يدفع الأفراد إلى التصرف بمنطقية ظاهرية
ضمن إطار معيب، كما تجلى في "تأثير الكوبرا" الشهير، حيث استجاب
المزارعون ببساطة للحافز المالي المباشر، متسببين في نتيجة عكسية.
- الاستغلال
المُتعمّد للثغرات (Gaming the System):
يتجاوز هذا السلوك مجرد الاستجابة
المنطقية لقواعد قاصرة، ليدخل في نطاق السلوك الانتهازي الواعي. هنا، يسعى
الفاعلون بنشاط إلى اكتشاف نقاط الضعف في النظام لاستغلالها لتحقيق أقصى
منفعة شخصية، كما فعل فريق كرة القدم المذكور ببراعة استراتيجية، أو كما
تمارس بعض الكيانات الاقتصادية التي تتصيد الثغرات التشريعية.
تتفاقم
هذه الإشكالية في سياق ما يُعرف بـ "معضلة
الوكيل والأصيل" (Principal-Agent Problem)، حيث يمتلك "الوكيل" (كالموظف أو المدير) معلومات أو
أهدافًا قد تختلف عن "الأصيل" (كصاحب العمل أو جهة الإشراف). فإذا لم
تُصمم الحوافز بدقة لتوحيد مصالحهما، قد يسعى الوكيل لتحقيق غاياته الخاصة (التي
تُحفزها المكافآت المشوهة) على حساب أهداف الأصيل. وهذا قد يفضي إلى "المخاطر الأخلاقية" (Moral Hazard)،
حيث يتغير سلوك الوكيل بشكل سلبي بعد إبرام الاتفاق، لأنه بات معزولاً عن التبعات
الكاملة لتصرفاته. كما يمكن لنظام الحوافز الرديء أن يؤدي إلى "الاختيار المعاكس" (Adverse Selection)
حتى قبل بدء العلاقة التعاقدية، بجذبه للعناصر الأكثر
استعدادًا لاستغلال النظام بدلاً من الأكثر كفاءة أو نزاهة.
تُسهم
العديد من المبادئ النفسية في تفسير وقوع الأفراد في شراك استغلال الحوافز المشوهة. "نظرية التوقع" (Prospect Theory)
لكل من Daniel
Kahneman وAmos
Tversky تشير إلى أن رهبة الخسارة
(كفوات مكافأة) قد تدفع لسلوكيات أكثر جرأة لاستغلال النظام. كما تلعب "الانحيازات المعرفية" (Cognitive Biases)
دورًا، مثل "انحياز
التركيز"
الذي يجعلنا نولي أهمية مفرطة للمؤشر الذي تتم
المكافأة عليه، أو "انحياز
الحاضر"
الذي يجعلنا نُؤثر المكاسب الفورية، حتى لو أضرت
بالمستقبل. كل هذا يأتمر، في جزء منه، بالمصلحة الذاتية الفطرية، والتي إذا
لم تُوجّه بحصافة عبر حوافز سليمة، قد تقود إلى مآلات عكسية. وكما لخص الخبير
الاقتصادي Steven Levitt:
"الحوافز هي حجر الزاوية للحياة الحديثة، لكن فهمك المغلوط لها قد يكلفك كل
شيء."
من
النظرية إلى الواقع: تجليات صارخة لانحراف الحوافز
قصة
مباراة بربادوس وغرينادا ليست حدثًا يتيمًا، بل هي كوة نطل منها على ظاهرة واسعة
الانتشار، تتكشف فيها بوضوح إشكاليات الوكيل والأصيل والمخاطر الأخلاقية. وتتنوع
هذه التجليات بين ما هو نابع من قصور تصميمي بسيط يمكن تداركه بتعديل
القواعد، وما هو متأصل في تضارب مصالح بنيوي
(Systemic Conflict of Interest) يستدعي
حلولاً جذرية.
1. قواعد اللعبة المعكوسة (مباراة بربادوس
وغرينادا):
القاعدة
لم تحظر الأهداف العكسية (قصور تصميمي جلي)، فاستغل اللاعبون (الوكلاء) هذه الفجوة
لتحقيق التأهل (مصلحتهم المباشرة) بأسلوب بدا منافيًا لروح التنافس الشريف (الغاية
الأسمى للبطولة).
2. فضيحة "ديزلجيت" (فولكسفاجن):
سعت
الجهات التنظيمية (الأصيل) لتحفيز إنتاج سيارات أقل تلويثًا. لكن ضغط تحقيق
الأهداف (التي قد تكون مصاغة بصرامة مفرطة دون مراعاة للواقع التقني) دفع مهندسي
الشركة (الوكلاء) لتطوير "برنامج خداع". الحافز (الامتثال للمعايير)
أفضى إلى غش منظم، في مثال صارخ على المخاطر الأخلاقية الناجمة عن حوافز ضاغطة،
وربما تضارب بين هدف الربحية للشركة والمسؤولية البيئية.
3. أزمة الرهن العقاري (2008):
كانت
الحوافز الممنوحة لوسطاء الرهن (الوكلاء) قائمة على حجم القروض الممنوحة، وليس على
جودتها (قصور في تصميم الحافز). أدى هذا إلى تفشي القروض عالية المخاطر، مما خدم
مصالحهم الآنية على حساب استقرار النظام المالي (مصلحة المجتمع/الأصيل). هذا
المثال يحمل أيضًا بذور تضارب مصالح بنيوي، حيث أن مكافأة الوسطاء بمعزل عن
المخاطر طويلة الأجل للنظام يخلق انفصامًا خطيرًا.
4. "تأثير
الكوبرا" في الهند إبان الاستعمار البريطاني:
مثال
كلاسيكي لقصور تصميمي بسيط، حيث أدى الحافز المالي المباشر (مكافأة لكل
كوبرا) إلى سلوك عكسي تمامًا للهدف المنشود (تقليل أعداد الكوبرا). النوايا كانت
سليمة، لكن الآلية كانت معيبة.
5. القطاع الصحي والممارسات الطبية المفرطة:
في
أنظمة "الدفع مقابل الخدمة"، يُكافأ مقدمو الرعاية (الوكلاء) على عدد
الإجراءات الطبية. هنا، الحافز المالي المباشر قد يتعارض مع مصلحة المريض (الأصيل)
في الحصول على الرعاية المثلى بأقل تكلفة ومخاطر. هذا يميل نحو تضارب مصالح
بنيوي إذا كان النظام برمته قائمًا على تعظيم حجم الخدمات بدلاً من تعظيم
النتائج الصحية للمريض.
6. انحراف الحوافز في العصر الرقمي وتقنياته:
o
مقاييس
التفاعل في منصات التواصل الاجتماعي:
تُشكل خوارزميات هذه المنصات مثالًا حيًا على تضارب
المصالح البنيوي. فالحافز الأساسي
لها هو إطالة أمد بقاء المستخدم وزيادة تفاعله لتعظيم إيرادات الإعلانات، وهو ما
قد يدفعها لتفضيل المحتوى المثير للجدل أو حتى المضلل، على حساب جودة الخطاب العام
والصحة النفسية للمستخدمين. هنا، مصلحة المنصة الاقتصادية تتعارض بشكل جوهري مع
مصلحة المستخدم والمجتمع.
o
نظم
التوصية المتحيزة: في
التجارة الإلكترونية، قد تُصمم نظم التوصية لخدمة مصالح المنصة (كترويج المنتجات
ذات هوامش الربح الأعلى) بدلاً من تقديم الخيارات المثلى للمستخدم، مما يمثل
تضاربًا آخر.
7. تحديات الحوافز في مجالي التعليم والبيئة:
o
في
التعليم: التركيز
المفرط على معدلات التخرج كحافز للمؤسسات التعليمية (قد يكون قصور تصميم
بسيط) يمكن أن يفضي إلى تخفيض المعايير الأكاديمية لضمان أرقام مرتفعة، بغض النظر
عن جودة المخرجات التعليمية.
o
في
البيئة: برامج
"تعويضات الكربون" التي تسمح للشركات بشراء أرصدة كربونية مشكوك في
جودتها لتحقيق أهداف الاستدامة المعلنة، قد تكون ستارًا لتضارب مصالح حيث يكون
الهدف هو تلميع الصورة بأقل كلفة بدلاً من تحقيق خفض حقيقي في الانبعاثات.
إن
التمييز بين هذه الأنماط من انحراف الحوافز أمر بالغ الأهمية؛ فبينما يمكن معالجة
قصور التصميم البسيط بتعديلات حصيفة في القواعد، يستدعي تضارب المصالح البنيوي
غالبًا تدخلات أعمق، كالتنظيم الخارجي، أو تعزيز الشفافية، أو حتى إعادة هيكلة
نماذج العمل الأساسية لضمان توافق المصالح بشكل أفضل.
الدروس
المستخلصة: نحو صياغة حوافز أكثر نضجًا وفعالية
إن
إدراك ظاهرة انحراف الحوافز ليس ترفًا نظريًا، بل هو ضرورة عملية لصياغة سياسات
ونظم أفضل، تتجاوز مجرد تحديد الغايات إلى استيعاب السلوك الإنساني وتوقع
استجاباته. فيما يلي بعض المبادئ الأساسية:
1. التصميم الشامل المُركّز على السلوك:
يتوجب
تجاوز التساؤل "ماذا نريد أن يحقق الناس؟" لنسأل: "كيف سيحاول
الأفراد تحقيق هذا الهدف بأقل جهد أو بأعظم فائدة شخصية ضمن إطار العقلانية
المحدودة والمصلحة الذاتية؟ وما هي الثغرات المحتملة؟". وكما قيل:
"أرني الحافز وسأريك النتيجة."
2. الاختبار والمحاكاة قبل التطبيق الشامل :
تجربة
القواعد في بيئة محدودة أو عبر نماذج محاكاة قادرة على كشف مكامن الخلل السلوكي
والعواقب غير المقصودة، كما كان يمكن أن يحدث لو خضعت قواعد كأس الكاريبي لاختبار
مسبق.
3. الموازنة بين الغايات الآنية والمستقبلية
وتعدد مؤشرات القياس (:
الحوافز
يجب أن تكافئ الاستدامة، لا الإنجازات المؤقتة التي قد يشجعها انحياز الحاضر. استخدام حزمة متوازنة من المؤشرات
بدلاً من مؤشر وحيد يجعل "التحايل" أصعب ويقلل من انحياز التركيز.
4. الشفافية والتبسيط:
القواعد
الواضحة تقلل فرص سوء الفهم والاستغلال.
5. المرونة والمراجعة الدورية للتكيف:
لا
بد من وجود آلية للرصد المستمر وتعديل الحوافز بسرعة عند ظهور سلوكيات غير مرغوبة.
النظم الناجحة هي تلك التي تتعلم وتتطور، مدركة أن البشر قادرون على ابتداع طرق
جديدة "للعب اللعبة".
تطبيق
المفهوم: دعوة للتأمل والعمل لمختلف الفاعلين
إن
استيعاب انحراف الحوافز ليس حكرًا على الأكاديميين، بل هو ضرورة عملية تمس حياتنا
جميعًا، سواء كنا قادة في مؤسسات، أو صانعي قرار، أو مجرد أفراد نسعى لترشيد
خياراتنا.
- لصناع القرار في
المؤسسات والشركات:
قبل إطلاق أي نظام مكافآت جديد أو
مؤشر أداء رئيسي، توقفوا وتأملوا: "هل هذا الحافز يكافئ حقًا السلوك
المنشود على المدى الطويل، أم أنه سيشجع على سلوكيات التفافية أو تلاعب
بالنتائج؟" فكروا مليًا في كيفية تأثير الحوافز على ثقافة الابتكار،
والتعاون، والنزاهة في كياناتكم.
- لواضعي السياسات
العامة والمشرعين:
كل تشريع جديد، كل لائحة تنظيمية،
كل برنامج دعم حكومي هو في جوهره نظام حوافز. هل خضعت هذه السياسات لدراسة
كافية لتوقع السلوكيات غير المقصودة التي قد تنجم عنها؟ هل توجد آليات
للمراجعة والتصويب السريع عند ظهور "تأثيرات كوبرا" مستجدة؟ إن
الشفافية في تصميم السياسات وتقييم أثرها السلوكي تمثل حجر زاوية.
- للأفراد في سياق
حياتهم اليومية:
انحراف الحوافز يطوقنا، من
خوارزميات المنصات الرقمية التي تحثنا على استهلاك المزيد من الوقت، إلى
العروض الترويجية التي قد تدفعنا لاقتناء ما لا نحتاج إليه. كن ناقدًا
واعيًا: "ما الذي يحفزني هذا النظام على فعله؟ وهل يخدم مصلحتي الحقيقية
أم مصلحة مصمم النظام؟" حتى في علاقاتنا الشخصية، قد تقودنا حوافز
مغلوطة (كالرغبة في "كسب" النقاش) إلى سلوكيات تقوض الثقة والتفاهم.
الرسالة
الجوهرية جلية: الحوافز
أدوات ذات قوة هائلة، لكنها كأي أداة بالغة التأثير، قد تكون محفوفة بالمخاطر إذا
ما استُخدمت دون فهم عميق أو حيطة.
نداء
للعمل:
1. تبنَّ الشك البنّاء: قبل
أن تتقبل حافزًا أو تستجيب له، تساءل عن عواقبه المحتملة والمستترة.
2. فكّر بمنظور شمولي: إذا
كنت في موقع يخولك تصميم الحوافز، ضع في اعتبارك الصورة الكلية، وليس فقط الهدف
المباشر.
3. طالب بالشفافية والمساءلة: من
المؤسسات والجهات التي تضع الحوافز المؤثرة في حياتك.
4. واظب على التعلم: عن
ديناميكيات السلوك البشري لفهم كيف نستجيب للعالم من حولنا.
الخاتمة:
الحوافز – بين براعة الصنعة وحكمة المقصد
حادثة
مباراة بربادوس وغرينادا، بكل ما أحاط بها من غرابة، تظل شاهدًا على أن البشر
ليسوا مجرد آلات صماء، بل كائنات تتمتع بقدرة على الإبداع والتكيف، وأحيانًا على
الالتفاف على القواعد بأساليب قد لا تخطر على بال واضعيها. إن عالمنا، من الاقتصاد
إلى السياسة، ومن إدارة الأعمال إلى التقنية، يعج بأنظمة الحوافز التي تشكل
سلوكياتنا بصمت وقوة.
الحل
ليس في نبذ الحوافز، فهي ضرورية للنهوض والإنجاز، بل في الارتقاء بوعينا تجاهها،
من كونها مجرد أدوات لتحقيق غايات مباشرة، إلى فن وعلم يتطلب بصيرة نافذة
بالطبيعة الإنسانية، وتواضعًا للإقرار بأننا قد نخطئ، ومرونة للتكيف والتعلم. وكما نبه Daniel
Kahneman: "الخطأ الأعظم هو افتراض أن الناس
كائنات عقلانية بالكامل." ولعل الدرس الأبلغ هو أن نبدأ دومًا بالتساؤل
الجوهري: ليس فقط "ماذا نريد أن يحدث؟"، بل "كيف
سيتفاعل البشر مع هذه اللعبة التي صممناها لهم، وما هي العوالم التي سنشكلها من
خلال القواعد التي نسنها؟"
إن الإجابة على هذا السؤال بصدق وعمق هي الخطوة
الأولى نحو تحويل الحوافز من مكامن زلل محتملة إلى روافع حقيقية للخير والرخاء.
0 comments:
إرسال تعليق