بحث في هذه المدونة


 العصبية: حجر الزاوية في صعود الدول وسقوطها - نظرة في فكر ابن خلدون

لا يزال فكر ابن خلدون يمثل منارةً تضيء لنا دروب فهم التاريخ السياسي والاجتماعي، خاصةً عندما يتعلق الأمر بدورة حياة الدول ونشأتها. ففي قلب نظريته، يبرز مفهوم "العصبية" كعامل محوري لا يمكن تجاهله عند تحليل كيفية قيام الدول وتطورها. تسعى هذه السطور إلى استكشاف دور العصبية في نشأة الدول وتعزيز شوكتها، وفقًا لما يطرحه ابن خلدون، مع إبراز أهمية هذا المفهوم في فهمنا المعاصر للديناميكيات السياسية.

تُعرّف العصبية بأنها الروابط الاجتماعية القوية التي تجمع الأفراد، سواء كانت هذه الروابط قائمة على القرابة، القبيلة، الدين، أو حتى المصالح المشتركة. هذا التعريف العميق يتجاوز مجرد الانتماء القبلي الضيق، ليشمل كل ما يُشكل شعورًا بالوحدة والهدف المشترك بين أفراد الجماعة. وهذه الوحدة، هي المحرك الأساسي لنشوء الدول.

فالعصبية، في جوهرها، هي قوة تضافر الجهود وتوحيد الصفوف. عندما تمتلك جماعة ما عصبية قوية، تصبح قادرة على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية بفاعلية أكبر. هذا التوحيد يظهر جليًا في القدرة على تشكيل جيش قوي للدفاع عن الأرض والمصالح، وفي تأسيس سلطة سياسية تعبر عن إرادة الجماعة ومصالحها. هذه السلطة، المدعومة بروابط عصبية متينة، تكون أكثر استقرارًا ورسوخًا، وتستطيع أن تنال شرعية أوسع من الشعب، مما يسهل عملية توسيع نفوذ الدولة وترسيخ أركانها.

لا يقتصر دور العصبية على مرحلة النشأة فحسب، بل يمتد تأثيرها ليشمل تعزيز شوكة الدولة واستمرار قوتها. فالعصبية القوية تُرسخ الاستقرار الاجتماعي، حيث يشعر الأفراد بالانتماء إلى كيان قوي يحميهم ويمثلهم. هذا الاستقرار يُسهل تطبيق القوانين ويقلل من الفوضى والاضطرابات، مما يوفر بيئة مواتية للتنمية والازدهار. كما أن الولاء الناتج عن العصبية يجعل الأفراد أكثر استعدادًا للدفاع عن دولتهم، والتجنيد في القوات المسلحة يصبح أسهل وأكثر فعالية، مما يعزز من قدرة الدولة على مواجهة التهديدات الخارجية. ولا ننسى دور العصبية في تسهيل إقامة التحالفات مع جماعات أخرى، مما يوسع من دائرة نفوذ الدولة ويعزز من قوتها الإقليمية والدولية.

إلا أن الفكر الخلدوني لا يغفل الجانب الآخر من الصورة، فيشير بوضوح إلى أن العصبية، على الرغم من إيجابياتها، قد تتحول إلى عامل هدم إذا تفككت الروابط الاجتماعية أو تعرضت للاختبارات الشديدة. ففي هذه الحالة، تظهر الفتن والنزاعات الداخلية التي تُضعف الدولة وتُمهد لسقوطها. وهذا يؤكد على أن العصبية ليست مجرد قوة دافعة في مرحلة النشأة، بل هي عامل حيوي يجب الحفاظ عليه وتنميته لضمان استدامة الدولة وقوتها.

وهكذا يتبين لنا أن العصبية تلعب دورًا جوهريًا في نشأة الدول وتعزيز شوكتها. إنها القوة الدافعة التي توحد الجماعات وتمكنها من تأسيس السلطة وتحقيق الاستقرار والازدهار. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن العصبية ليست عصا سحرية، بل هي عامل اجتماعي وسياسي معقد، يتطلب فهمًا عميقًا وإدارة حكيمة لضمان استمرار دوره الإيجابي في بناء الدول القوية والمستقرة. إن إحياء الوعي بأهمية العصبية، بمعناها الواسع الذي يشمل الوحدة والهدف المشترك، يظل ضروريًا لفهم تحديات بناء الدول المعاصرة وتجاوزها.


 


العلاقات السورية الروسية في مرحلة ما بعد الأسد: الديون كأداة ضغط واستراتيجيات المواجهة

أ.د. عماد الدين المصبح

أحدث سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 تحولاً جوهرياً في المشهد الجيوسياسي السوري، لا سيما في علاقات دمشق مع حلفائها التقليديين، وعلى رأسهم روسيا وإيران. تُقدَّر الديون المترتبة على النظام السابق بنحو 30 مليار دولار، وفق تصريحات وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذه الديون على سياسات النظام الجديد، وإمكانية تحوُّلها إلى ورقة ضغط من قبل الدائنين. تبرز هنا إشكالية رئيسية: كيف يمكن للحكومة الانتقالية التعامل مع إرث الديون الثقيل مع الحفاظ على سيادتها وبناء شرعيتها الداخلية والخارجية؟

الإطار التاريخي للديون السورية: من التحالف إلى الأزمة

طبيعة الديون وأسباب تراكمها

تشكل الديون السورية لروسيا وإيران نتاجاً لسنوات من التحالف الاستراتيجي الذي بدأ مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. فبينما قدمت إيران دعماً عسكرياً مباشراً عبر ميليشياتها، تدخلت روسيا عسكرياً عام 2015 لحماية النظام. تحول هذا الدعم إلى ديون مالية ضخمة، قُدِّرت بحوالي 30 مليار دولار، تشمل قروضاً نقدية، واتفاقيات استيراد نفط مدعوم، وتوريد أسلحة. وفقاً لوثائق مسربة، استخدمت هذه الأموال لدعم آلة القمع، بدلاً من تطوير البنية التحتية أو الخدمات العامة.

البعد الجيوسياسي للديون

لا تقتصر هذه الديون على بعدها المالي، بل تُعتبر أداةً للهيمنة السياسية. فروسيا تسعى للحفاظ على وجودها العسكري عبر قاعدتي حميميم وطرطوس، بينما تطالب إيران باسترداد استثماراتها عبر السيطرة على قطاعات استراتيجية كالنفط والفوسفات. وفقاً لتصريحات مسؤولين إيرانيين، فإن طهران تعتبر الديون "حقاً شرعياً" بموجب مبدأ خلافة الدول في القانون الدولي، وهو ما يضع النظام الجديد أمام تحدٍّ قانوني وسياسي معاً.

الديون كأداة ضغط: بين المطالب الروسية والإيرانية

الموقف الروسي: التفاوض مقابل المصالح الاستراتيجية

تبدو موسكو أكثر مرونةً مقارنةً بطهران في تعاملها مع الملف. فزيارة الوفد الروسي الرفيع إلى دمشق في يناير 2025 أكدت سعي الجانبين لإعادة تعريف العلاقة على أساس "المصالح المشتركة" تشمل المقترحات الروسية مقايضة الديون بالحفاظ على القواعد العسكرية، أو تحويلها إلى استثمارات في قطاعات كالنقل والطاقة. لكنَّ هذا النهج يواجه معارضةً داخليةً سورية، حيث يرى خبراء اقتصاديون أن الاتفاقيات الروسية السابقة "جائرة" وتنتهك السيادة الوطنية.

الموقف الإيراني: التشدد في المطالبة بالسداد

على النقيض، تصر طهران على سداد الديون كاملةً، مُستندةً إلى اتفاقيات وقعها النظام السابق. بلغت السجالات ذروتها مع تصريح رئيس لجنة الأمن القومي الإيرانية السابق بأن "أي حكومة جديدة ملزمة بسداد 30 مليار دولار. لكنَّ الوثائق المسربة تكشف أن إدراك طهران بصعوبة استرداد الأموال دفعها لابتكار آليات بديلة، مثل الحصول على أسهم في الموانئ والمناجم. يُنظر إلى هذا النهج كامتداد لسياسة الهيمنة الاقتصادية التي مارستها إيران خلال حكم الأسد.

استراتيجيات المواجهة: بين الشرعية القانونية والإصلاح الاقتصادي

الطعن القانوني في شرعية الديون

تُعتبر فكرة "الديون الكريهة" (Odious Debt) حجر الزاوية في الجهد القانوني السوري. ينص هذا المبدأ على أن الديون المُكتَسَبة دون موافقة الشعب، والمستخدمة ضد مصالحه، لا تلزم الحكومات اللاحقة. وقد طبَّقت دول مثل روسيا الثورية 1917 هذا المبدأ لإلغاء ديون القيصر. في السياق السوري، يمكن الاستناد إلى أن النظام السابق فقد شرعيته منذ 2011، وفق قرارات الأمم المتحدة، وأن الديون استُخدمت لقمع المدنيين.

إعادة التفاوض والشراكات الدولية

تسعى دمشق إلى توظيف الدعم الدولي الناشئ بعد سقوط الأسد. ففي منتدى دافوس 2025، طالب الشيباني برفع العقوبات الغربية كشرطٍ للتعافي الاقتصادي، وهو ما قد يمهد لإعادة هيكلة الديون عبر مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي. كذلك، تدرس الحكومة خصخصة الموانئ والمصانع الحكومية لجذب الاستثمارات، مما قد يوفر سيولةً لسداد الديون بشكلٍ تدريجي.

التحديات الداخلية: شرعية النظام ودور المجتمع السوري

بناء الشرعية عبر المواجهة الاقتصادية

يواجه النظام الجديد معضلةً ثلاثية الأبعاد: تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مواجهة الضغوط الخارجية، وكسب ثقة الشعب. وفقاً لاستطلاعات محلية، يُعتبر رفض "إرث الأسد المالي" مطلباً شعبياً جامعاً. هنا، يمكن توظيف الخطاب الوطني لتعزيز الشرعية، عبر التأكيد على رفض التبعية الخارجية وبناء اقتصادٍ منتج.

تعبئة المجتمع المدني كضغط مضاد

برزت مبادرات من منظمات حقوقية سورية لتوثيق انتهاكات النظام السابق وحلفائه، كأساسٍ قانوني لرفض السداد. كما طالب ناشطون بمحاكمة النظامين الإيراني والروسي أمام محاكم دولية بتهمة تمويل جرائم حرب. هذه الضغوط قد تعزز الموقف التفاوضي للسوريين، لا سيما مع تصاعد الدعم الغربي الرسمي للحكومة الانتقالية.

الخاتمة: نحو استراتيجية متكاملة

تبقى الديون السورية أداة ضغطٍ ذات حدين: فبينما تهدد باستمرار التبعية لمراكز القوى الخارجية، فإنها تتيح فرصةً لإعادة تعريف العلاقات الإقليمية والدولية على أسسٍ جديدة. يتطلب التعامل معها نهجاً يجمع بين الحلول القانونية (الطعن بالديون الكريهة)، والإصلاح الاقتصادي (جذب الاستثمارات)، والدبلوماسية النشطة (إشراك المجتمع الدولي). في النهاية، سيُحدد موقف المجتمع السوري وقدرته على فرض روايته حول هذه الديون مصيرَ المرحلة الانتقالية برمَّتها.

 

المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة