بحث في هذه المدونة

متى تسقط الأصفار؟ نظرة نقدية على توقيت وشروط عملية إصلاح العملة بعد الأزمة

 

صورة تحتوي على تلبيس, الوجه الإنساني, رجل, بناء

قد يكون المحتوى المعد بواسطة الذكاء الاصطناعي غير صحيح.

أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي (الرياض)

مقدمة

كثيراً ما نصادف في البلدان التي عانت من تضخم جامح أو صدمات اقتصادية عنيفة – كتلك التي تعصف بالاقتصاد السوري منذ سنوات جراء الحرب والضغوطات المتعددة، مما أدى إلى تآكل شديد في القوة الشرائية لعملتها الوطنية – مشهداً مألوفاً: أوراق نقدية تحمل أعداداً هائلة من الأصفار، يصبح حمل النقود أشبه بحمل حزم من الورق، وتصبح الحسابات اليومية معقدة ومربكة. في خضم هذه الفوضى النقدية، يطفو على السطح غالباً مقترح "حذف الأصفار" من العملة، كحل سحري لاستعادة القيمة المفقودة وتسهيل التعاملات. السؤال الحاسم الذي يطرح نفسه في هذا السياق، ليس كيف نحذف الأصفار، بل متى يمكن لهذا الإجراء أن يكون مجدياً ومستداماً، وما هي الشروط الأساسية التي يجب توفرها لضمان ألا تعود الأصفار لتطارد الاقتصاد مرة أخرى، خاصة في سياقات معقدة كسوريا حيث تتداخل العوامل الاقتصادية بالسياسية والأمنية.

ليست مجرد عملية حسابية: لماذا تُحذف الأصفار؟

إن تراكم الأصفار على العملة الورقية ليس مجرد مشكلة شكلية؛ أو حتى انهيار القوة الشرائية لوحدة النقد الجارية، له تداعيات عملية ونفسية عميقة. من الناحية العملية، يؤدي إلى صعوبة في إجراء العمليات الحسابية، وزيادة تكاليف طباعة الأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة جداً، وتعقيد أنظمة المحاسبة والمدفوعات الإلكترونية. نفسياً، يشير وجود عدد كبير من الأصفار إلى فقدان العملة لقيمتها، ويقوض ثقة المواطنين بها، وهو ما يلاحظ بوضوح في تعاملات السوريين اليومية وتوجههم نحو عملات أجنبية أو أصول أخرى للحفاظ على قيمة مدخراتهم. لذا، فإن عملية حذف الأصفار (أو ما يسمى Re-denomination في الأدبيات الاقتصادية) تهدف إلى تبسيط المعاملات، وتقليل التكاليف، وإعادة بناء بعض من الثقة النفسية في العملة الوطنية عبر جعل الأرقام تبدو "طبيعية" مرة أخرى. لكن هذه الأهداف لن تتحقق أو تستدام ما لم يتم التعامل مع الأسباب الجذرية التي أدت إلى تضخم الأصفار في المقام الأول، وهي تحديات بنيوية عميقة في الحالة السورية تتجاوز مجرد السياسة النقدية.

إن قرار حذف الأصفار، في جوهره، ليس مجرد تغيير فني لورقة النقد، بل هو إعلان اقتصادي وسياسي ذو دلالات عميقة. إنه عملية معقدة تتطلب توقيتاً محسوباً وظروفاً اقتصادية كلية مواتية. لا يمكن النظر إليه كعلاج سحري يشفي الاقتصاد من أمراضه المزمنة، بل هو أقرب إلى تتويج لجهود إصلاحية هيكلية سبقت، وغالباً ما يمثل الحلقة الأخيرة في برنامج استقرار اقتصادي شامل وطويل الأمد. وتجدر الملاحظة أن عملية إعادة التسمية هذه، في حد ذاتها، هي إجراء رمزي بالدرجة الأولى، إذ لا تمس بشكل مباشر قيمة العملة الحقيقية أو سعر صرفها مقابل العملات الأخرى، بقدر ما تهدف إلى تعديل الإدراك النفسي والعملي لقيمتها. يجمع خبراء الاقتصاد على أن اللجوء إلى هذا الخيار يصبح مبرراً ومنطقياً فقط عندما تكون الدولة قد برهنت بالفعل على قدرتها على لجم التضخم المفرط، واستعادت قدراً ملموساً من الاستقرار والسيطرة على مؤشراتها الاقتصادية الكلية.

الشروط الموضوعية لنجاح العملية: متى يكون التوقيت مناسباً؟

إن الخطأ الأكبر الذي يمكن أن تقع فيه دولة عانت من أزمة نقدية – وسوريا مثال صارخ على ذلك مع استمرار تدهور قيمة الليرة – هو اللجوء إلى حذف الأصفار كإجراء منعزل أو كحل سريع قبل معالجة الاختلالات الهيكلية العميقة. إن توقيت هذه العملية حاسم ويجب أن يتم فقط بعد تحقيق مجموعة من الشروط الموضوعية الصلبة والمستدامة.

أول وأهم هذه الشروط هو السيطرة التامة على التضخم. لا يمكن البدء بعملية حذف الأصفار إلا بعد أن يكون معدل التضخم قد انخفض بشكل كبير ومستمر، واستقرت الأسعار عند مستويات مقبولة لفترة كافية. هذا يعني أن السياسات النقدية التي يديرها البنك المركزي يجب أن تكون فعالة في كبح جماح ارتفاع الأسعار، وأن يكون هناك التزام قوي ومستمر من قبل السلطات النقدية والمالية بعدم العودة إلى السياسات التضخمية التي أدت إلى الأزمة. إذا تم حذف الأصفار بينما لا يزال التضخم مرتفعاً، فإن الأصفار المحذوفة ستعود بسرعة، وسيصبح الإجراء مجرد عبث يقوض المصداقية بشكل أكبر.

الشرط الثاني هو تحقيق الانضباط المالي وتقليص عجز الموازنة. غالباً ما يكون التضخم الجامح نتيجة لتمويل الحكومة لنفقاتها عن طريق طباعة النقود (التمويل النقدي للعجز). لذا، يجب أن تكون الدولة قد أحرزت تقدماً ملموساً في إصلاحاتها المالية، بما في ذلك زيادة الإيرادات (عبر توسيع القاعدة الضريبية مثلاً) وترشيد الإنفاق العام، وتقليل الاعتماد على الاقتراض الداخلي والخارجي المفرط.

الشرط الثالث يتعلق بـ استقرار سعر الصرف الخارجي وتوفر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي. سعر الصرف هو مرآة لقوة العملة وثقة الأسواق بها. يجب أن يكون سعر الصرف قد استقر أو أصبح يدار بطريقة شفافة وموثوقة.

الشرط الرابع يكمن في استعادة الثقة العامة في النظام المصرفي والسياسة النقدية، وتوفر أسس اقتصادية كلية قوية. يجب أن يتمتع البنك المركزي بالمصداقية والاستقلالية الكافية.

أخيراً وليس آخراً، يجب أن يكون هناك استقرار سياسي واجتماعي نسبياً، وثقة عامة في قدرة الحكومة والبنك المركزي على إدارة الاقتصاد بمسؤولية. في الحالة السورية، يمثل هذا الشرط تحدياً خاصاً نظراً للظروف الراهنة.

بمعنى آخر، فإن حذف الأصفار هو بمثابة وضع القشرة النهائية على كعكة الاستقرار الاقتصادي التي تم خبزها بصعوبة بالغة.

الآليات التنفيذية: الجانب الفني للعملية

بمجرد توفر الشروط الموضوعية، تبدأ المرحلة الفنية والإدارية لعملية حذف الأصفار. تتضمن هذه المرحلة عدة خطوات أساسية تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتنسيقاً عالياً:

  1. القرار القانوني: يتم إصدار تشريع جديد (قانون أو مرسوم) يحدد الفئة الجديدة للعملة وكيفية تحويل الفئات القديمة إليها (مثلاً: 1 وحدة عملة جديدة = 1,000 أو 10,000 أو 1,000,000 وحدة عملة قديمة). يحدد القانون أيضاً اسم العملة الجديدة (قد يظل الاسم كما هو أو يتغير مع إضافة لاحقة مثل "جديد").
  2. طباعة العملة الجديدة: يتم تصميم وطباعة أوراق نقدية وعملات معدنية بالفئات الجديدة. يجب أن تتم هذه العملية بسرية وأمن شديدين.
  3. التداول المزدوج: يتم عادة تحديد فترة زمنية يتم خلالها تداول كل من العملة القديمة والجديدة معاً. يسمح هذا للمواطنين والمؤسسات بالتكيف مع التغيير واستبدال العملات القديمة بالجديدة تدريجياً.
  4. التثقيف والتوعية العامة: هذه خطوة حاسمة. يجب إطلاق حملة إعلامية وتوعوية واسعة النطاق لشرح التغيير للمواطنين، وكيفية التحويل بين الفئات القديمة والجديدة، وكيفية تسعير السلع والخدمات بالعملة الجديدة. يهدف هذا إلى تجنب الارتباك والتلاعب بالأسعار.
  5. تحديث الأنظمة: يتطلب هذا الإجراء تحديث جميع الأنظمة المحاسبية والمصرفية وأنظمة المدفوعات ونقاط البيع لتتعامل مع الفئات الجديدة.

هذه الآليات تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتنسيقاً عالياً بين البنك المركزي والبنوك التجارية والقطاع الخاص والحكومة. ومع ذلك، فإن نجاح العملية على المدى الطويل لا يتوقف على سلاسة هذه الآليات الفنية، بل على مدى استدامة الاستقرار الاقتصادي الذي بنيت عليه. تجربة إندونيسيا، على سبيل المثال، تضمنت خطة متعددة المراحل شملت التوعية، ثم الانتقال، فسحب العملة القديمة، وصولاً إلى الاعتماد الكلي على العملة الجديدة.

إمكانيات النجاح ومخاطر الفشل: تجارب دولية مفصلة

إن إمكانية نجاح عملية حذف الأصفار مرتبطة طردياً بمدى التزام الدولة بالسياسات الاقتصادية السليمة بعد تنفيذ الإجراء. لكن المخاطر قائمة، وأبرزها خطر الفشل في الحفاظ على الاستقرار بعد الحذف.

·        التجربة التركية (2005): نموذج للانضباط المسبق

تُعد تجربة تركيا في حذف ستة أصفار من الليرة عام 2005 واحدة من أبرز الأمثلة الناجحة نسبياً في العصر الحديث. لم يأتِ هذا القرار من فراغ أو كخطوة معزولة، بل كان تتويجاً لسنوات من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الصارمة التي بدأت في مطلع الألفية بدعم من صندوق النقد الدولي. عانت تركيا لعقود من تضخم مزمن ومعدلات فائدة مرتفعة، مما أضعف ثقة المستثمرين والمواطنين على حد سواء في الليرة. برنامج الاستقرار الذي تبنته الحكومة ركز على عدة محاور أساسية: استقلالية البنك المركزي وتشديد السياسة النقدية لاستهداف التضخم، إصلاحات جذرية في القطاع المصرفي الذي كان يعاني من هشاشة كبيرة، انضباط مالي حكومي صارم لتقليل عجز الموازنة والحد من الدين العام، بالإضافة إلى تحرير التجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.

بحلول عام 2004، كانت تركيا قد نجحت في خفض معدل التضخم السنوي من مستويات ثلاثية الأرقام إلى ما يقارب 10%، وهو إنجاز كبير مهد الطريق لعملية إعادة تقييم العملة. جاء حذف الأصفار ليُبسط المعاملات اليومية، ويقلل تكاليف المحاسبة، والأهم من ذلك، ليعكس رمزياً دخول الاقتصاد التركي مرحلة جديدة من الاستقرار والمصداقية. تم التخطيط للعملية بعناية، مع حملة توعية واسعة وفترة تداول مزدوج لليرتين القديمة والجديدة. ساهمت هذه الخطوة في تعزيز الثقة بالليرة التركية "الجديدة" في الأسواق المحلية والدولية، وسهلت اندماج تركيا بشكل أكبر في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن استدامة هذا النجاح ارتبطت باستمرار الالتزام بالسياسات الاقتصادية الحصيفة، وأي تراجع عن هذه السياسات، كما شهدت تركيا في فترات لاحقة، يمكن أن يعيد الضغوط التضخمية ويقوض المكاسب التي تحققت.

·        البرازيل وخطة ريال (1994): هندسة نقدية مبتكرة

تعتبر "خطة ريال" البرازيلية لعام 1994 حالة دراسية فريدة ومبتكرة في تاريخ مكافحة التضخم المفرط وإصلاح العملة. قبل هذه الخطة، عانت البرازيل لعقود طويلة من تضخم مزمن وعنيف، فشلت خلالها محاولات عديدة لتثبيت الأسعار، بما في ذلك عدة عمليات لتغيير العملة وحذف الأصفار لم تدم طويلاً. المشكلة الأساسية كانت "الفهرسة" (Indexation) المنتشرة على نطاق واسع، حيث كانت الأجور والعقود والأسعار تُعدل تلقائياً وبشكل متكرر بناءً على معدلات التضخم السابقة، مما خلق حلقة مفرغة من التوقعات التضخمية الذاتية التحقق.

جاءت خطة ريال بفكرة عبقرية تمثلت في إنشاء "وحدة القيمة الحقيقية" (Unidade Real de Valor - URV)، وهي وحدة حساب غير متداولة (ولكنها تستخدم في تحديد الأسعار والعقود) كانت قيمتها تُعدل يومياً مقابل الدولار الأمريكي، وبالتالي ظلت مستقرة نسبياً بالقيمة الحقيقية. تم تشجيع وتحفيز جميع الفاعلين الاقتصاديين على تحويل أسعارهم وعقودهم تدريجياً إلى الـ URV. وعندما أصبحت معظم الأسعار مقومة بهذه الوحدة المستقرة، وفي يوم محدد (1 يوليو 1994)، تم إطلاق العملة الجديدة "الريال" بقيمة تعادل وحدة URV واحدة. هذا الانتقال السلس نسبياً كسر دوامة الفهرسة والتوقعات التضخمية. ترافق هذا الإجراء النقدي المبتكر مع سياسات مالية تقشفية، وإصلاحات هيكلية، وفتح الاقتصاد، مما ساهم في نجاح الخطة بشكل كبير في القضاء على التضخم المفرط وإعادة الثقة في العملة. يوضح هذا المثال أهمية معالجة الآليات المؤسسية والسلوكية التي تغذي التضخم، وليس فقط الأعراض.

·        زيمبابوي: دروس في فشل الإصلاحات الشكلية

تقدم تجربة زيمبابوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مثالاً صارخاً على فشل عمليات حذف الأصفار عندما لا تكون مصحوبة بإصلاحات اقتصادية جوهرية لمعالجة الأسباب الجذرية للتضخم المفرط. شهدت البلاد واحدة من أسوأ نوبات التضخم المفرط في التاريخ المسجل، حيث وصلت معدلات التضخم إلى أرقام فلكية يصعب تصورها، وأصبحت الأوراق النقدية تحمل فئات تصل إلى مئات التريليونات من الدولارات الزيمبابوية.

خلال هذه الفترة، قامت السلطات النقدية في زيمبابوي بعدة محاولات لحذف الأصفار من العملة. في عام 2006، تم حذف ثلاثة أصفار. وفي عام 2008، تم حذف عشرة أصفار. وفي أوائل عام 2009، تم حذف اثني عشر صفراً أخرى. كل هذه المحاولات كانت مجرد إجراءات شكلية لم يكن لها أي تأثير يذكر على وقف التدهور الكارثي لقيمة العملة. السبب الرئيسي لهذا الفشل هو أن الحكومة استمرت في تمويل عجز ميزانيتها الضخم عن طريق طباعة النقود بكميات هائلة، ولم تتخذ أي خطوات جادة لإصلاح السياسة المالية، أو استعادة الانضباط النقدي، أو معالجة الانهيار في الإنتاج الزراعي والصناعي، أو بناء الثقة في المؤسسات الاقتصادية.

كانت عمليات حذف الأصفار مجرد محاولات يائسة لتبسيط المعاملات التي أصبحت مستحيلة بسبب كثرة الأصفار، لكنها لم تخدع أحداً. سرعان ما كانت الأصفار تعود للظهور على العملة "الجديدة" بوتيرة أسرع من ذي قبل، مما أدى إلى تآكل كامل للثقة في الدولار الزيمبابوي. في النهاية، اضطرت زيمبابوي إلى التخلي رسمياً عن عملتها الوطنية في عام 2009، وتبنت نظاماً متعدد العملات يعتمد بشكل أساسي على الدولار الأمريكي والراند الجنوب أفريقي. تجربة زيمبابوي هي تذكير قوي بأن حذف الأصفار لا يمكن أن يكون بديلاً عن الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية والالتزام بسياسات سليمة.

·        ألمانيا وإصلاح المارك (1948): بناء الثقة من تحت الأنقاض

تُعد عملية إصلاح العملة في ألمانيا الغربية عام 1948، والتي شهدت إدخال المارك الألماني (Deutsche Mark)، واحدة من اللحظات الفارقة في تاريخ "المعجزة الاقتصادية الألمانية" (Wirtschaftswunder) بعد الحرب العالمية الثانية. لم تكن مجرد عملية حذف أصفار بالمعنى التقليدي، بل كانت استبدالاً كاملاً للرايخ مارك الذي فقد قيمته تماماً بسبب التضخم المفرط الذي أعقب الحرب، والتمويل الهائل للمجهود الحربي، وانهيار الإنتاج، وتقسيم البلاد.

جاء إصلاح العملة كجزء من حزمة أوسع من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية التي قادها لودفيج إيرهارد. تم استبدال الرايخ مارك بالمارك الألماني الجديد بمعدل تحويل قاسٍ، حيث حصل كل مواطن على مبلغ أولي صغير بالعملة الجديدة، وتم تحويل المدخرات والديون بمعدلات مختلفة أدت إلى خسائر كبيرة للبعض، ولكنها كانت ضرورية لامتصاص الكتلة النقدية الهائلة عديمة القيمة. الأهم من ذلك، تزامن إصلاح العملة مع إلغاء معظم ضوابط الأسعار والتقنين، وتحرير الأسواق، وإنشاء بنك مركزي مستقل (بنك الأراضي الألمانية، الذي تطور لاحقاً إلى البنك الاتحادي الألماني "بوندسبانك") مُنح صلاحيات واضحة للحفاظ على استقرار العملة.

كان لهذا الإصلاح الجذري تأثير فوري وصادم. اختفت السوق السوداء تقريباً بين عشية وضحاها، وامتلأت واجهات المتاجر بالسلع، وعادت الحوافز للإنتاج والعمل. على الرغم من الصعوبات الأولية وارتفاع البطالة لفترة، إلا أن إصلاح العملة، مقترناً بالسياسات الاقتصادية الجديدة ومساعدات خطة مارشال، وضع الأساس لسنوات من النمو الاقتصادي القوي والمستدام وانخفاض التضخم. الدرس الرئيسي من التجربة الألمانية هو أن إصلاح العملة، حتى لو كان مؤلماً، يمكن أن يكون ناجحاً بشكل كبير إذا كان جزءاً من تحول شامل نحو اقتصاد سوق منظم وسياسات نقدية ومالية مسؤولة، وقبل كل شيء، إذا نجح في استعادة الثقة بشكل حاسم.

 

في الختام، إن عملية حذف الأصفار من العملة ليست عصا سحرية، بل هي أشبه بلمسة نهائية ضرورية ومفيدة، لكنها لا تكتسب جدواها إلا إذا جاءت في سياق أوسع من التعافي الاقتصادي المستدام، وكتتويج لجهود جبارة ومستمرة. يجب أن تكون الأسس الاقتصادية الكلية قد استقرت، وأن تكون الثقة قد بدأت بالعودة، وأن تكون هناك إرادة سياسية والتزام بالإصلاحات. بالنسبة لدولة مثل سوريا، التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية متشابكة، فإن أي تفكير في مثل هذا الإجراء يجب أن يكون جزءاً من رؤية شاملة لإعادة بناء الاقتصاد والمؤسسات، ومعالجة الأسباب الجذرية للتضخم وتدهور العملة، وليس مجرد محاولة تجميلية. عندها فقط، يمكن لحذف الأصفار أن يساهم في تبسيط المعاملات، وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية، وطي صفحة الماضي المؤلم، ليكون بمثابة إشارة رمزية قوية على بداية عهد جديد من التعافي والازدهار الاقتصادي. أما دون ذلك، فسيظل مجرد تغيير في الشكل لا يمس جوهر المشكلة، وقد يؤدي إلى خيبة أمل جديدة تزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي المأزوم.

 

المراجع:

  1. Edwards, S. (1997). Crisis and Reform in Latin America: From Despair to Hope. Oxford University Press.
  2. Hanke, S. H., & Kwok, A. K. (2009). On the Measurement of Zimbabwe's Hyperinflation. Cato Journal, 29(2), 353-364.
  3. Mosley, L. (2005). Dropping Zeros, Gaining Credibility? Currency Redenomination in Developing Nations. Unpublished manuscript, Department of Political Science, University of North Carolina at Chapel Hill. (While unpublished, this type of working paper is often cited in academic discourse if it presents a coherent argument or data).
  4. Özatay, F., & Sak, G. (2002). The 2000-2001 Financial Crisis in Turkey. In: M. Uzan (Ed.), The Turkish Economy in Crisis. Frank Cass Publishers.
  5. Uğurlu, E. (2006). Currency Redenomination and Numerical Effects: The Turkish Case. Central Bank Review, Central Bank of the Republic of Turkey, 6(1), 1-16.

 

المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة