بحث في هذه المدونة

كيف تم اختراع أمة اسمها فينيقيا؟

 

قراءة في كتاب "الفينيقيون: اختراع أمة) للمؤرخة جوزيفين كوين، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة[1]

العنوان الأصلي: "In Search of the Phoenicians"

أ.د. عماد الدين المصبح

اقتصادي سوري



في ركن راسخ من ذاكرتنا التاريخية، تستقر صورة بهية لأمة بحرية عظيمة اسمها "فينيفيا". كيان انطلق من سواحل المشرق، منح العالم الأبجدية، وأسس قرطاج، وتحكم في تجارة المتوسط. هذه الصورة تبدو حقيقة ثابتة، لكنها مع ذلك، كما تكشف المؤرخة جوزيفين كوين، ليست سوى شبح، كيان مُتخيَّل تم استدعاؤه من الماضي لخدمة الحاضر.

1.    تشريح الاختراع:

في كتابها الصادم "البحث عن الفينيقيين"، لا تسعى كوين لإضافة تفاصيل جديدة لهذه الصورة، بل لتحطيمها بالكامل. هي تجادل بأن "الأمة الفينيقية"، بهويتها الواعية والموحدة، لم توجد قط، وأننا أمام اختراع حديث، وُلد في فجوات التاريخ حين تراخت الدقة العلمية، أو تعثرت القراءة الموضوعية، أو غلب الأمل الإيديولوجي.

"الفينيقيون"، بهذا المعنى، ليسوا ظاهرة تاريخية فحسب، بل هم واقع ثقافي مُركَّب، يصعب تفكيكه نظراً لطبيعته المتجذرة في الوعي الجمعي. إنه يشمل كل ما نُسب إليهم من إنجازات، لكنه يفصلها عن وهم الكيان القومي الواحد الذي لم يكن له وجود إلا في كتابات الآخرين، وفي طموحات المحدثين. ليس تاريخاً مزوراً بالمعنى الجنائي، لكنه دوماً خارج الرؤية الذاتية لأصحابه، وبالتالي خارج حقيقتهم الكاملة.

2.    كلفة الأسطورة:

تتعدد الأسباب التي تدفعنا اليوم إلى تفكيك هذه الأسطورة. أبرزها الحاجة لفهم الماضي على حقيقته، لا كما نريد له أن يكون. يضاف إلى ذلك الخطر الكامن في توظيف هذا الشبح التاريخي لخدمة أجندات سياسية معاصرة، إذ يشعر كثيرون أن هذا الماضي المُخترَع يمثلهم، بينما هو في الحقيقة يتصيد هويتهم الحقيقية، فلا يرون في التمسك به سوى تضحية بالواقع من أجل وهم. وعندما تتقاطع هذه العوامل مع الحاجة لهوية مميزة، يصبح اختراع الأمم ليس خياراً، بل ضرورة سياسية.

لكن هذه الضرورة لا تخلو من كلفة. فكل هوية تاريخية تُبنى على أساس مُتخيَّل تعني تشويهاً للذاكرة، ومعلومات ناقصة تشل قدرتنا على فهم تطور مجتمعاتنا، ومنافسة غير عادلة بين الروايات التاريخية. الأهم من ذلك أن اتساع هذا المفهوم يخلق نظاماً موازياً من القيم والانتماءات، تتحكم به الأجندات السياسية والمصالح الضيقة بدلاً من الحقائق الموضوعية، ما يعمق التفاوت الثقافي ويغذي الانقسامات.

3.    فسيفساء الولاءات:

في تاريخ الساحل الشامي، لم تكن الهويات المحلية ظاهرة طارئة، بل كانت هي الأصل الراسخ. في نقوشهم، لم نجد "فينيفياً" واحداً، بل وجدنا "رجل صيدا"، و"ملك صور"، و"سيدة جبيل". كانت الهوية لصيقة بالمدينة، والولاء الديني لإله المدينة: ملقرت في صور، أشمون في صيدا، وبعلة في جبيل. كان هذا التنوع المحلي هو الحقيقة الصلبة، وكان الصمت عن أي هوية جامعة هو الدليل القاطع على غيابها.

4.    جينالوجيا الأسطورة:

ثم جاء عصر القوميات في أوروبا، القرن التاسع عشر، محمّلاً بحمى بناء الأمم. وبدلاً من قراءة الماضي بشروطه، تم إسقاط هذا النموذج الحديث على مدن الساحل الشامي المتفرقة. لقد قام المؤرخون الأوروبيون بتجميع هذه الفسيفساء المتنافسة تحت اسم إغريقي واحد هو "Phoinikes"، وصنعوا لهم تاريخاً قومياً لم يعيشوه. وهكذا، بدل أن يتراجع وهم "فينيفيا"، تمدد متغذياً على هشاشة المناهج الدراسية، وضعف الإرادة النقدية.

5.    انفجار الأسطورة:

انفجار الأزمة الهوياتية في لبنان الحديث أدخل البلاد في مرحلة جديدة، تفككت فيها السرديات الكبرى، وتحولت "الفينيقية" من نظرية تاريخية إلى ساحة رئيسية للصراع الإيديولوجي. الخطاب الفينيقي المعاصر، التيارات السياسية التي تتبناه، والمثقفون الذين يروجون له، كلها عناصر جعلت من هذا الشبح التاريخي بنية متكاملة وموازية، ورغم صعوبة تفكيكها، تشير كل الأدلة إلى أنها تجاوزت في بعض الأوساط حقيقة التنوع التاريخي للبنان من حيث التأثير.

6.    متاهة الخروج: هل من عودة من عالم الأشباح؟

لكن ما العمل؟ كيف يمكن الخروج من هذا النفق؟ كيف يمكن لذاكرة المنطقة، التي تنزف هوياتياً، أن تعيد بناء نموذج تاريخي يحاصر هذا الكيان الشبحي ويعيده إلى الإطار النقدي؟

لا يمكن اختزال الإجابة في إجراء أكاديمي أو نقاش نخبوي. المسألة تتطلب، قبل كل شيء، إعادة بناء العقد المعرفي بين المؤرخ والجمهور، بحيث يشعر المواطن أن فهمه النقدي للتاريخ يقابله التزام من المؤسسات الثقافية بتقديم رواية شفافة وغير مؤدلجة. هذه المعادلة لا يمكن أن تنجح دون إصلاح بيئة التعليم نفسها، بحيث تصبح الهويات المحلية غنى، والأسطورة القومية وهماً، وتُبسّط الحقائق التاريخية بشكل جذري، وتصبح القراءة النقدية للتاريخ هي الأساس.

7.    خيار وجودي بين الحقيقة والوهم

لقد أصبح شبح "فينيفيا" في بعض الخطابات ليس مجرد هامش تاريخي، بل قلب الهوية وعرضاً من أعراضها العميقة. ومواجهته ليست مسألة فنية بحتة، بل هي جزء أساسي من عملية إعادة بناء وعي تاريخي سليم وخيار وجودي: إما مجتمعات حديثة تتأسس على الحقائق التاريخية والكفاءة النقدية والثقة المتبادلة، أو بقاء دائم في متاهة من الوهم الهوياتي لا تنتهي.

 



[1] لشراء الكتاب (سعره 1$) ادخل الى الرابط [هنا]:

 

المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة