ولاء بلا مساءلة: في البنية الأبوية وتناسخها بين الفرد والجماعة

 

ليست البنية الأبوية مجرد ترتيب اجتماعي عابر، بل هي منظومة فكرية وأخلاقية تنسج علاقة مخصوصة بين السلطة والخضوع، وتعيد إنتاج نفسها عبر مؤسسات التنشئة والخطاب العام والطقوس اليومية. في هذا المقال أحاول أن أتتبع كيف تتشكل عقلية الولاء المطلق داخل هرم اجتماعي صارم، وكيف تتغذى هذه العقلية من أنماط تفكير تقليدية تُعيد المركز إلى الماضي والنص والرمز، ثم كيف يمكن تفكيك هذا التداخل بما يفتح الطريق لولاء مبني على القيم لا على الأشخاص.

تبدأ الحكاية من سؤال المصدر: من أين تستمد السلطة شرعيتها؟ في المجتمع ذي التنظيم الأبوي تُنسب الشرعية إلى مقام أعلى خارج الفرد: إلى السلالة والسابقة والخبرة المتراكمة، أو إلى رموز كبرى تُقدَّم باعتبارها حاملة للحقيقة النهائية. بهذا تنتقل بوصلة الحكم من الفحص إلى الامتثال، ومن الحجاج إلى التلقّي. يصبح القائد، أو من يشغل موقع القمة في الهرم، تجسيدًا للأمان والمعنى، فيما يُعاد تعريف الاعتراض باعتباره تهديدًا للنظام كله لا مجرد خلاف جزئي. ومع مرور الوقت يغدو الهرم ذاته قيمة أخلاقية: كل درجة تعرف مكانها، وكل صوت يطلب الإذن قبل أن يتكلم.

تتغذى عقلية الولاء المطلق من هذه البنية التي تُكافئ الطاعة وتؤطرها أخلاقيًا. يجري تدريب الفرد على وصل الكرامة بالانضباط، وربط السلامة بالامتثال، حتى يغدو التفكير النقدي مرادفًا للمجازفة. المدرسة، بوصفها امتدادًا منظمًا للسلطة، ترسخ هذا النمط حين تقيس التفوق بالانضباط لا بالابتكار، والإعلام حين يحوّل القمة إلى رمز جامع لا يُقارب إلا بالثناء، والاحتفالات العامة حين تُعيد عبر الطقوس إنتاج مشهد الولاء. هكذا ينشأ ما يمكن تسميته بـ«الطاعة المؤسَّسة»: ليست مجرد سلوك فردي، بل مناخ كامل يثني على الامتثال ويُجرِّم المساءلة. ويتعزز هذا الترابط حين تقترن البنية الأبوية ببنية اقتصادية ريعية أو زبائنية، حيث لا يصبح الولاء مجرد فضيلة أخلاقية، بل شرطًا للحصول على الموارد: الوظيفة، الترقية، أو حتى الخدمة الأساسية. هنا، يصبح الامتثال استراتيجية بقاء وترقٍ، وتصبح المساءلة مخاطرة اقتصادية مباشرة.

على المستوى النفسي تتراكم ثلاث آليات مركزية. الأولى هي الخوف: الخوف من العقاب، أو من النبذ، أو من فقدان المكان داخل السلم الهرمي. الثانية هي الحاجة العميقة إلى الانتماء، حيث يغدو الولاء جسرًا إلى جماعة حامية، حتى لو كان الثمن تعليق الحكم المستقل. الثالثة هي الاعتياد، إذ يتحول التفويض إلى عادة عقلية؛ مفاصل القرار تُسلَّم إلى «من يعرف»، ومع الأيام يضعف العصب المعرفي المسؤول عن المبادأة والاستنتاج. وحين تشتغل هذه الآليات معًا، يتحول الولاء إلى يقين أخلاقي: أنا صالح لأنني مطيع، وأنا آمن لأنني تابع. غير أن هذا الخضوع الظاهري ليس مطلقًا دائمًا. ففي هوامش النظام، تنشأ أشكال من "المقاومة الخفية" (Everyday Resistance): النكتة التي تتهكم على السلطة، الإشاعة التي تقوض هيبتها، أو التباطؤ المدروس في تنفيذ الأوامر. هذه التكتيكات لا تهدد الهرم بشكل مباشر، لكنها تفتح شقوقًا في جدار الطاعة المطلقة، وتحفظ للفرد مسافة نفسية من سلطة لا يملك مواجهتها علنًا.

يتضاعف أثر ذلك عندما تتقاطع البنية الأبوية مع نمط فكري سلفي، بالمعنى الواسع للعودة إلى الماضي معيارًا للصواب. هنا يتشكل تحالف خفي بين النص/السابق وبين الهرم/القائد. كلاهما يطلب من الفرد خفض صوته لصالح سلطة أعلى، وكلاهما يضع الحقيقة خارج التجربة الجارية. في الممارسة اليومية يؤدي هذا إلى رقابة ذاتية تحرس اللسان قبل أن تتكلم، وإلى حساسية مفرطة تجاه النقد بوصفه مسًّا بالثوابت أو بالرموز. تتخلق جماعة شديدة التماسك لكنها مغلقة معرفيًا، تعرّف ذاتها بحدود الولاء، وتعرّف الخارج بحدود الشبهة.

ليس الاحتفاء بالخطأ عرضًا هامشيًا في هذا المناخ؛ إنه وظيفة ضبط. حين يُحمّى الخطأ بعبارات الحكمة البعيدة أو القراءة التأويلية المريحة، يُرسل النظام رسالة واضحة: القمة لا تُختبر، والهرم لا يُجادَل، وشبكة المصالح المرتبطة بهما خط أحمر. نتيجة ذلك أن المقاييس تنقلب: يُكافَأ من يجيد التبرير، ويُهمَّش من يحسن التحليل. ومع الزمن تتخشب اللغة، وتُستبدل





المفاهيم بالهتاف، ويتراجع الفعل المؤسسي أمام الإشارة والرمز والصورة.

 


لكن هذه الحتمية الظاهرية ليست قدرًا محتومًا. فتفكيكها لا يأتي من وعظ أخلاقي مجرد، بل من خلال فاعلين اجتماعيين يحملون منطقًا جديدًا للعلاقة بين السلطة والجماعة. يبرز هنا ثلاثة فاعلين محوريين:

أولًا، الأجيال الجديدة التي نشأت في ظل فضاءات معرفية أكثر انفتاحًا، والتي تحمل قيمًا مختلفة حول الفردية والاستحقاق. هذه الأجيال، بحكم تكوينها، أقل استعدادًا لتقبّل السلطة كأمر مسلّم به، وتميل أكثر للمطالبة بالشفافية والمشاركة.

ثانيًا، النخب المهنية والتكنوقراطية التي تستمد شرعيتها من الكفاءة والإنجاز لا من الولاء الشخصي. هؤلاء، سواء كانوا أطباء أو مهندسين أو خبراء اقتصاد، يدخلون للمؤسسات منطقًا مختلفًا قائمًا على المعايير الموضوعية وحل المشكلات، مما يتصادم بالضرورة مع منطق الولاء المطلق.

ثالثًا، مؤسسات المجتمع المدني والإعلام المستقل التي تخلق مساحات عامة بديلة للحوار والنقد، وتوفر الأدوات واللغة اللازمة لممارسة المساءلة كحق مدني، لا كفعل خيانة.

هذا التحول، الذي تقوده هذه القوى، لا يهدف إلى إلغاء الهرم، فالمجتمعات تحتاج إلى تنظيم وتفويض وتمايز أدوار، لكنه يهدف إلى إعادة تشغيله بمنطق الخدمة لا التقديس. وعندما تنجح هذه الديناميكيات في نقل مركز الشرعية من الأشخاص إلى القيم، ومن الذاكرة إلى القدرة على التعلم، تتبدل المعادلة: يصبح الولاء قوة إنتاج لا طاقة تعطيل، وتغدو الطاعة اختيارًا واعيًا لا ردّ فعل دفاعيًا. عندها فقط يستقيم ميزان السلطة والمعنى، وتستعيد الجماعة عقلها النقدي دون أن تفقد تماسكها.

 أ.د. عماد الدين أحمد المصبح