الذهب في الصين: بريق يخفي أزمة أم مؤشر على التعافي؟

 

أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي -الرياض

في مشهد اقتصادي يقلب المعادلات التقليدية رأساً على عقب، تقدم الصين اليوم مفارقة تستدعي التأمل. ففي الوقت الذي يُنظر فيه تاريخياً إلى الذهب كحصن منيع ضد التضخم، يشهد ثاني أكبر اقتصاد في العالم إقبالاً قياسياً على المعدن الأصفر بالتزامن مع معاناته من ضغوط انكماشية عميقة. هذا البريق الذي يساهم بشكل غير مألوف في بيانات أسعار المستهلك، يطرح سؤالاً جوهرياً: هل هو علامة تعافٍ أم مجرد قناع لامع يخفي شروخاً أعمق؟

الإجابة الواضحة هي أن هذا الإقبال ليس مؤشراً على الصحة الاقتصادية، بل هو عرضٌ للمرض وليس علاجاً له.


ما وراء السبائك: أزمة ثقة لا تحوط من تضخم

إن الدافع الرئيسي وراء حمى الذهب في الصين ليس الخوف من تآكل القوة الشرائية للنقود (التضخم)، بل الخوف من تآكل قيمة الأصول نفسها. يمكن تفسير هذا التوجه من خلال ثلاثة دوافع رئيسية مترابطة:

1.    أزمة ثقة عميقة:

يفقد المستثمرون والأسر الصينية الثقة في الأدوات الاستثمارية التقليدية. فسوق الأسهم متقلب، والأهم من ذلك، قطاع العقارات الذي شكّل لعقود مخزن الثروة الرئيسي للأمة، يعاني من أزمة هيكلية طاحنة. في ظل غياب البدائل الآمنة، أصبح الذهب هو الملاذ الأخير لحماية المدخرات.

2.    ضعف اليوان وعدم اليقين:

تتزايد المخاوف بشأن استقرار اليوان على المدى الطويل، مما يدفع الكثيرين لتحويل مدخراتهم إلى أصل عالمي صلب لا يخضع لسيطرة أي حكومة بمفردها، ويحتفظ بقيمته بعيداً عن تقلبات السياسات المحلية.

3.    الشراء الاستراتيجي الحكومي:

بنك الشعب الصيني نفسه هو أحد أكبر المشترين للذهب في العالم. تأتي هذه الخطوة في إطار استراتيجية أوسع لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي وتنويع الاحتياطيات الأجنبية، مما يعزز الطلب ويشير إلى تحوط استراتيجي على المستوى الوطني.

قناع لامع على اقتصاد منهك

يجب ألا ننخدع ببريق الذهب الذي يلمع في سماء الاقتصاد الصيني القاتمة. هذا البريق ليس ضوء شمس التعافي، بل هو أشبه بضوء إنارة الطوارئ الذي يشتعل في مبنى تهتز أساساته. إن ارتفاع سعر الذهب ليس "ترياقاً" للاقتصاد، بل هو "قناع لامع" يخفي تحته انكماشاً هيكلياً وضعفا في الطلب المحلي:

فالانكماش في الصين ليس مجرد انخفاض مؤقت في الأسعار، بل حالة مرضية مزمنة جذورها تعود إلى نموذج نمو غير مستدام قائم على العقارات والصناعات الثقيلة. مع انفجار هذه الفقاعة، تجد المصانع نفسها تنتج سلعاً تفوق الطلب المحلي، مما يضطرها لخفض الأسعار بشكل مستمر. الذهب لا يحل هذه المشكلة، بل يمثل هروباً فردياً منها.

كما أن الأسر الصينية، التي استثمرت ما يصل إلى 70% من ثرواتها في العقارات، تشاهد مدخراتها تتآكل. عندما يفقد المواطن الثقة في الركائز الأساسية للاقتصاد (العقارات، الأسهم، فرص العمل)، فإنه يتوقف عن الاستهلاك ويبدأ في تخزين السيولة في الملاذ الأكثر أماناً عبر التاريخ.

 

إن ارتفاع سعر الذهب في الصين اليوم ليس مؤشراً اقتصادياً إيجابياً، بل هو مقياس دقيق للقلق و"مؤشر للخوف" يعكس حجم اليأس والبحث عن الأمان. كل غرام من الذهب يتم شراؤه هو بمثابة صوت احتجاج صامت ضد السياسات الاقتصادية الحالية، وتصويت بحجب الثقة عن المستقبل القريب.

بدلاً من أن يكون دليلاً على الانتعاش، أصبح الذهب مرآة تعكس عمق التحديات في النموذج الاقتصادي الصيني. إنه ليس استثماراً في المستقبل بقدر ما هو بوليصة تأمين ضد حاضر مقلق ومستقبل غامض.