أ.د. عماد الدين أحمد المصبح
أكاديمي
سوري
يشهد الشارع السوري حالة من التململ الاجتماعي المتصاعد، والتي قد يُخطئ البعض في اختزالها كرد فعل مباشر على تعديل هياكل التكاليف ورفع الدعم. لكن قراءة أنثروبولوجية اقتصادية أعمق تكشف أن هذا السخط ليس مجرد احتجاج على غلاء الأسعار، بل هو تعبير عن تصدّع “ميثاق اجتماعي غير مكتوب” ساد لعقود. إنه الرفض المؤلم لتفكيك بنية “الاستقرار المتوقع” التي شكلت وعي أجيال كاملة، حتى وإن كان ثمن هذا الاستقرار هو التنمية المؤجلة والنمو المكبوت.
معمار
الاقتصاد الرعوي: الأجر والسعر كأدوات للحوكمة الاجتماعية
لفهم
جذور القلق الحالي، لا بد من تفكيك معمار علاقات الإنتاج والتوزيع الذي حكم سوريا
منذ ستينيات القرن الماضي (تحديدا من عام 1958). في هذا النموذج، لم تكن المتغيرات
الاقتصادية الأساسية كالأجور والأسعار تخضع لمنطق السوق الحر، بل كانت أدوات
سيادية في يد الدولة لإدارة المجتمع وتحقيق التوازنات السياسية.
فالأجور،
في القطاع العام تحديداً، لم تكن تعويضًا عن الإنتاجية الحدية لعنصر العمل، بقدر
ما كانت “منحة اجتماعية” تضمن بها الدولة
ولاء الموظف وتؤمّن له حداً أدنى من العيش. هذا الدور الاجتماعي للأجر رسّخ
انفصاله المنهجي عن الإنتاجية، وبالتالي فك ارتباطه بمنطق التسعير القائم على
التكلفة الحقيقية.
أما
الأسعار، فكانت أبعد ما يكون عن كونها المعادل النقدي للقيمة. لقد كانت “أسعارًا
إدارية” بامتياز، تستخدمها الدولة كأداة
سياسية لإعادة التوزيع. يتجلى ذلك في سياسات الدعم المزدوجة (للمنتج والمستهلك)
وفي دعم حوامل الطاقة لخفض “التكلفة الاجتماعية للمعيشة” . وبهذا، تحوّلت “أداة
السعر” من آلية محايدة لاكتشاف معلومات
السوق إلى قناة حيوية لإبرام وتجديد العقد الاجتماعي. عبر هذه القناة، تراكمت على
مدى عقود توقعات شعبية، وحقوق مكتسبة، ورأسمال رمزي هائل للدولة بصفتها “الضامن” .
مفارقة
“الركود الاستقراري” : شبكة الأمان وذاكرة السعر العادل
هذا
التشابك المعقد بين الاقتصادي والاجتماعي أنتج ما يمكن تسميته بـ “مفارقة الركود
الاستقراري” (The
Paradox of Stagnationary Stability). وضعٌ ساد فيه الاستقرار الاجتماعي على حساب
الديناميكية الاقتصادية، حيث ضحّت الدولة بفعالية الاقتصاد من أجل وظيفته
الاجتماعية.
هذا
الوضع شكّل في الوعي الجمعي شبكة أمان متعددة الأبعاد، وإن كانت هشة. فقد ضمنت
الدولة (ولو شكلياً) التوظيف، والرعاية الصحية، والتعليم. لكن من منظور
أنثروبولوجي، لم تكن هذه الشبكة مجرد سياسات فوقية، بل تجسّدت في ممارسات يومية
صغيرة: فاتورة كهرباء محتملة، ربطة خبز بسعر مفهوم، أجرة نقل عام يمكن توقعها. هذه
التفاصيل المادية هي التي نسجت ما يمكن تسميته بـ “الذاكرة الجمعية للسعر العادل” ،
وهو تصور ثقافي عميق لما “يجب” أن تكون
عليه تكلفة الحياة الأساسية، بمعزل عن قوانين السوق.
صدمة
التحول: مقاومة الحرية المحفوفة بالمخاطر
اليوم،
ومع الشروع في تفكيك هذا الإرث والانتقال نحو نموذج اقتصادي “أقل اجتماعية” ، فإن
الإجراءات المتخذة ليست مجرد تعديلات تقنية. إن رفع الدعم وتحرير الأسعار هما
بمثابة هدم عنيف لشبكة الأمان تلك، ونسف لذاكرة السعر العادل الراسخة.
وهنا
يكمن جوهر ردة الفعل الشعبية التي تتجاوز الأيديولوجيا. إنه ليس حنيناً للماضي
الاشتراكي، بل هو حنين وظيفي إلى حالة الاستقرار المفقودة. أصبح الحراك مطلبياً
بامتياز، يطالب باستعادة قواعد العقد القديم. وفي هذا السياق، تبدو استعارة المفكر
رشيد خيون عن “متلازمة العبد الذي يقاوم حريته” دقيقة
للغاية؛ فهي تصف حالة الفرد الذي اعتاد على نظام من التبعية المضمونة والأمان
المكفول، ليجد نفسه فجأة في مواجهة حرية السوق المحفوفة بالمخاطر والغموض. إنها
مقاومة نفسية للانتقال من عالم “الحقوق الممنوحة” إلى عالم “الفرص المتنافس عليها” .
نحو
عقد اجتماعي جديد: ما بعد السردية القديمة
إن
تجاهل هذا البعد الأنثروبولوجي في عملية التحول الاقتصادي خطأ فادح. فالتحدي
الأكبر ليس تقنياً أو مالياً، بل هو تحدٍ اجتماعي وثقافي. فالانتقال الناجح لا
يحتاج إلى أدوات تقنية فحسب، بل إلى سردية وطنية مقنعة تجيب عن أسئلة وجودية
يطرحها المواطن اليوم: لماذا نُصلح؟ من سيدفع الثمن ومتى؟ وما هو المقابل
المأمول؟
الإجابات
لا يمكن أن توجد إلا في صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار بمفردات محدثة: شبكات
أمان ذكية ومستهدفة تحمي الضعفاء، أجور عادلة مرتبطة بالإنتاج الحقيقي، وأسعار
تكشف الحقيقة الاقتصادية دون أن تعاقب الفقراء.
عندها
فقط، يمكن للسعر أن يتحول في الوعي الجمعي من كونه وعداً أبوياً قديماً بالحماية،
إلى أداة شفافة وعادلة لاكتشاف القيمة، وبناء الثقة في اقتصاد المستقبل.
.png)