في حضرةِ الشهادةِ تصمتُ الكلماتُ خجلاً، وتتكلمُ الدماءُ لغةً لا يفهمُ أبجديتَها إلا العاشقون لترابِ هذا الوطن. ليسوا مجردَ أرقامٍ تضافُ إلى قائمةِ المليون، ولا أسماءً عابرةً في نشراتِ الأخبار؛ إنهم "أحمد عوض السليمان، أمجد أيمن أسود، بلال غياث الشيخ، محمد أحمد الحسين، ومحمد عبد السلام خلوف". هؤلاء الخمسة الذين قرروا أن يوقفوا عقاربَ القهر، ويفتتحوا بصدورهم بوابةَ حلب، ليعيدوا كتابةَ التاريخِ بمدادٍ أحمرَ قانٍ.
لقد
طالَ ليلُ السوريين، وتشردوا في أصقاعِ الأرض، ودفعوا من مهجِهم وأرواحِ فلذاتِ
أكبادهم ما ينوءُ الجبالُ بحمله. مليونُ شهيدٍ ومئاتُ الآلافِ من المفقودين كانوا
ينتظرون هذه اللحظة، لحظةَ أن ينبري فتيةٌ آمنوا بربهم وبحقهم، ليقولوا للعالم:
إنَّ الطريقَ إلى الديارِ لا يُعبَّدُ بالورود، بل بالأجسادِ الطاهرة.
لقد
أدرك هؤلاء الأبطالُ سرَّ المعادلةِ مبكراً، فاستحالوا جسراً عبرت عليه قوافلُ
الفاتحين. لم يبخلوا، ولم يترددوا، بل رصّوا صفوفهم كما رصّ سليمان العيسى
كلماتِه، وكأنهم سمعوا نداءَ البرقِ فاجتّاَزوه وانهَمَرُوا
عنْدَ
الشهيدِ تَلاَقى اللّهُ والبَشَرُ
نعم،
هناك، عند تلك النقطة الفاصلة بين الحياة والموت، تلاقى الوعدُ الإلهي بالنصر مع
الإرادة البشرية بالحرية. لقد اختاروا الموتَ "أغنيةً خضراء" ليزرعوا
الحياةَ في يبابِ أرواحنا، وليقولوا لرفاقهم القادمين من خلفهم بلغةِ الفعلِ لا
القول، ما صاغهُ شاعرنا العظيم "عمر أبو ريشة" دستوراً للبطولة:
تقضي
الرجولةُ أن نمدَّ جسومَنا
جسراً..
فقل لرفاقنا أن يعبروا!
ويا
له من عبور! عبورٌ داسَ على أوجاعِ السنين، واختصرَ مسافاتِ الشتات. لقد مهدت
أجسادُ "أحمد وأمجد وبلال والمحمدين" الطريقَ، فمشوا إلى حتفهِم وهم
يبتسمون، واجهوا نيرانَ الطغيانِ بصدورٍ عاريةٍ إلا من الإيمان،
ومشوا
على هرجِ اللهيبِ بواسما
وتقهقرَ
الناعي ولم يتقهقروا
***
وكذا
يذودُ عن الحمى عبَّادهُ
ويموتُ
من دونِ العرينِ القَسْورُ!
إنهم
"أطفالنا السمر" الذين كبروا يا سليمان العيسى، لم يعودوا صغاراً ينسجون
الرؤى، بل صاروا عمالقةً يصنعون الواقع. لقد شبّوا عن الطوق، وحملوا "الغيمة
الحمراء" فوق رؤوسهم عمامةَ عزّ، ليُلقّنوا المعتدي درساً في كيف تُختصرُ
الطرقُ إلى كرامةِ الإنسان.
يا
أبطالَ حلب، ويا بواكيرَ "ردع العدوان"، أنتم اليومَ "الخالدون على
أهدابنا"، نبتّم "عرائشَ الزهو" في عيونِ شعبٍ كاملٍ اشتاقَ للنصر.
بدمائكم الزكية تهاوت "أساطيرُ" الخوف، وتكسرت هياكلُ الظلم. لقد أثبتم
للعالم أن الحقَّ الذي ظنَّ سارقُه أنه سيندثرُ بالسكين، هو حقٌ لا يموتُ ما دام
وراءه مطالبٌ مستعدٌ لأن يكون جسراً للعبور.
سلامٌ
عليكم يومَ ولدتم، ويومَ استشهدتم، ويومَ تبعثون أحياءً في ذاكرةِ أمةٍ لن تنساكم.
أنتم البدءُ، وأنتم الخبر، وأنتم الجسرُ الذي أوصلنا إلى ضفةِ الأمل. رحمكم الله،
وتقبلكم في عليين، وجعل دماءكم لعنةً على الظالمين، ونوراً للمقتبسين من نارِ
الحرية المقدسة.
