بحث في هذه المدونة

 

سوريا بين وعد الانفتاح وفخاخ الطريق: رفع العقوبات واختبار التنمية الحقيقية

أ.د. عماد الدين أحمد المصبح

أكاديمي سوري مقيم في الرياض

 


يفتح قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 30 حزيران/يونيو 2025، برفع العقوبات عن سوريا، صفحة جديدة في كتاب بلد أنهكته سنوات طويلة من الحرب والعزلة. للوهلة الأولى، يبدو القرار وكأنه الضوء الأخضر الذي طال انتظاره لإطلاق أكبر ورشة إعادة إعمار في العصر الحديث. لكن، هل يكفي فتح الباب لإعادة بناء ما هدمته سنوات الحرب؟ أم أن الطريق إلى التعافي محفوف بفخاخ قد تكون أشد تعقيداً من العقوبات نفسها؟ هذه اللحظة الفارقة ليست مجرد تحول سياسي، بل هي اختبار عميق لقدرة سوريا على تحويل فرصة تاريخية إلى واقع ملموس.

وعد الفجر الجديد: ما الذي تغير على الورق؟

على الورق، تبدو الصورة مشرقة. رفع العقوبات يعني نظرياً نهاية حقبة من الجمود الاقتصادي الخانق. يعني أن المصارف السورية يمكنها العودة تدريجياً إلى نظام "سويفت" المالي العالمي، وأن الأموال والأصول المجمدة في الخارج يمكن أن تجد طريقها إلى الداخل. يعني أيضاً أن الشركات الأجنبية، العربية منها والغربية، لم تعد تواجه تهديداً مباشراً بالعقوبات إذا ما قررت الاستثمار في قطاعات حيوية كالبنية التحتية، والطاقة، والنقل.

تصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، جاءت لتعزز هذا التفاؤل، حيث رحب بالقرار كـ"خطوة حاسمة"، مؤكداً التزام الحكومة بتعزيز الشفافية ودمج النظام المالي السوري بالنظام الدولي. هذا الوعد، إذا تحقق، من شأنه أن يعيد الثقة، ويحرك عجلة الاقتصاد، ويخلق فرص عمل لملايين السوريين.

الواقع المعقد: ما وراء التفاؤل الرسمي

لكن وراء هذا التفاؤل، تكمن حقيقة أكثر تعقيداً. فرفع العقوبات لا يمحو تلقائياً تركة سنوات من الحرب والفساد وتآكل الثقة. التحدي الأول يكمن في الفجوة بين النص القانوني للقرار والتنفيذ الفعلي على الأرض. فما تزال هناك عقوبات قائمة على شخصيات وكيانات، وما يزال المناخ الاستثماري العالمي حذراً، والبنوك الدولية قد تتردد طويلاً قبل استئناف التعامل المباشر خوفاً من المخاطر الكامنة.

التحدي الأعمق هو تحدٍ داخلي. فالبنية التحتية مدمرة، والكفاءات البشرية هاجر قسم كبير منها، والبيئة التشريعية والإدارية بحاجة إلى إصلاحات جذرية لتكون قادرة على استيعاب وإدارة تدفقات مالية ضخمة بشفافية ونزاهة. السؤال هنا ليس فقط "هل ستأتي الأموال؟" بل "إلى أين ستذهب، وكيف ستُدار؟".

من النظرية إلى التطبيق: اختبار القطاعات الحيوية

الاختبار الحقيقي للتعافي لن يكون في الخطابات السياسية أو بيانات الترحيب، بل في تفاصيل التنفيذ على الأرض، في تلك الساحات التي ستكشف ما إذا كان رفع العقوبات سيتحول إلى تنمية حقيقية أم مجرد فرصة مهدرة3المشهد الأول والأكثر وضوحاً هو ورشات إعادة الإعمار؛ فهل ستُطرح المشاريع الكبرى في مناقصات دولية شفافة تضمن الجودة والكفاءة، أم ستتحول إلى غنائم تُوزع على شبكات المصالح التي ورثتها سنوات الحرب؟ إن طريقة إدارة هذه العقود ستكون المؤشر الأول على نوايا المرحلة الجديدة.

ومن هنا، ينتقل الاختبار إلى العصب المالي للاقتصاد، أي القطاع المصرفي. فهل ستتمكن المصارف السورية من تطبيق معايير الحوكمة ومكافحة غسيل الأموال الدولية بسرعة كافية لكسب ثقة نظيراتها العالمية، أم ستبقى معزولة، مجرد قنوات محلية غير قادرة على اجتذاب التدفقات المالية الكبرى؟ أما الرهان الأكبر فيكمن في قطاعي الطاقة والنقل، فهذه المشاريع العملاقة لا تتطلب استثمارات ضخمة فحسب، بل تحتاج إلى بيئة قانونية مستقرة وضمانات سيادية طويلة الأمد، وهو ما سيمثل الامتحان الأصعب لقدرة الدولة على بناء الثقة مع كبار المستثمرين الدوليين.

خريطة الطريق: بناء المستقبل بعيداً عن الحلول الجاهزة

إن الانتقال من مجرد رفع للعقوبات إلى تعافٍ مستدام يتطلب خريطة طريق واضحة تتجاوز الاحتفال بالقرار السياسي، وتغوص في جذور الأزمةهذه الخريطة يجب أن ترتكز على أعمدة أساسية ومترابطة، لا يمكن فصل أحدها عن الآخر. أولها، وأهمها، الشفافية المطلقة في إدارة أموال إعادة الإعمار وموارد الدولة، لتكون خاضعة لرقابة صارمة تضمن عدم تحولها إلى مصدر جديد للفساد يلتهم فرص المستقبل.

ويتطلب ذلك، بدوره، إصلاحات هيكلية عميقة تتجاوز القشور؛ من تحديث القوانين التجارية والاستثمارية، إلى تبسيط الإجراءات البيروقراطية، والأهم من ذلك، بناء قضاء مستقل ونزيه قادر على حماية الحقوق وتوفير مناخ آمن لرأس المال الجاد. وأخيراً، تكتمل هذه الرؤية بإدراك أن سوريا لا يمكنها أن تنهض وحدها. فالتعافي الحقيقي يقتضي شراكة دولية وإقليمية فاعلة، لا تقتصر على الدعم المالي، بل تشمل الدعم الفني والتقني، وتبنى على الثقة والمصالح المتبادلة لضمان أن يكون النمو مستداماً وليس مجرد فقاعة مؤقتة.

بداية السباق لا نهايته

في المحصلة، رفع العقوبات ليس خط النهاية، بل هو مجرد إشارة الانطلاق في سباق طويل ومحفوف بالتحديات. إنه يمنح سوريا فرصة لالتقاط الأنفاس والبدء من جديد، لكنه لا يقدم حلولاً سحرية. النجاح لن يقاس بضخامة الأموال التي ستدخل البلاد، بل بمدى قدرة سوريا على بناء اقتصاد لا يقتات على أزمات الماضي، بل يؤسس لمستقبل مختلف ومستقر. السؤال الحقيقي الذي يواجه السوريين اليوم ليس فقط ما إذا كان العالم سيعود إليهم، بل أي سوريا سيجدها العالم عندما يعود.

 

 

 

0 comments:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة