بحث في هذه المدونة

 مفارقة المحاور: لماذا يقف السعر عموديًا في رسوم الاقتصاد الجزئي؟

اللقاء الأول مع منحنى الطلب

لكل من يخطو خطواته الأولى في عالم الاقتصاد الجزئي، وخاصة عند دراسة العرض والطلب، هناك لحظة توقف ودهشة. عند رسم العلاقة بين السعر والكمية، نجد أنفسنا أمام تقليد راسخ يبدو للوهلة الأولى متعارضًا مع المنطق الرياضي المعتاد الذي تعلمناه: السعر (Price - P)، الذي غالبًا ما نفكر فيه كمؤثر أو متغير مستقل، يوضع على المحور الرأسي (Y)، بينما الكمية (Quantity - Q)، التي تتأثر بالسعر وتعتبر المتغير التابع، توضع على المحور الأفقي (X). لماذا هذا الانعكاس لما هو مألوف في الرياضيات والعلوم الأخرى، حيث يوضع المتغير المستقل أفقيًا والتابع رأسيًا؟

أصل المشكلة: جذور تاريخية ومنطق مختلف

لفهم هذه "المفارقة"، يجب أن نعود بالزمن إلى الوراء، تحديدًا إلى أواخر القرن التاسع عشر وإلى أحد أعمدة علم الاقتصاد الحديث: ألفريد مارشال (Alfred Marshall). في كتابه المؤثر والصادر عام 1890، "مبادئ الاقتصاد" (Principles of Economics)، والذي شكل مرجعًا أساسيًا لعقود طويلة، قام مارشال بترسيخ استخدام الرسوم البيانية لتوضيح نظريات العرض والطلب والتوازن.

هنا تكمن نقطة التحول. على عكس ما قد نفترضه اليوم (أن الكمية المطلوبة أو المعروضة هي التي تعتمد على السعر)، يبدو أن مارشال، في سياق معين على الأقل، كان يفكر في الأمر من زاوية مختلفة. يُعتقد أنه كان ينظر إلى السعر كمتغير تابع في سياق الإنتاج والعرض. أي أنه كان يتساءل: ما هو السعر اللازم لكي يكون المنتجون مستعدين لعرض كمية معينة في السوق؟ أو، من جانب الطلب، ما هو السعر الذي يجب أن يصل إليه الشيء لكي يرغب المستهلكون في شراء كمية محددة منه؟

بهذا المنطق، يصبح السعر (P) هو المتغير الذي يتكيف أو يتحدد بناءً على الكمية (Q) المرغوب إنتاجها أو استهلاكها. ووفقًا للتقليد الرياضي (حتى في ذلك الوقت كان وضع المتغير التابع رأسيًا هو الأكثر شيوعًا)، وضع مارشال السعر على المحور الرأسي (Y) والكمية على المحور الأفقي (X).

استمرارية التقليد: لماذا بقي الوضع على ما هو عليه؟

رغم أن المنطق الأكثر شيوعًا اليوم في تفسير دوال الطلب والعرض هو أن الكمية تابعة للسعر

مما يجعل وضع المحاور الحالي يبدو "خاطئًا" من الناحية الرياضية الصرفة، إلا أن تقليد مارشال استمر وتجذر لأسباب عدة:

  1. التأثير الهائل لمارشال وكتابه: كان كتاب "مبادئ الاقتصاد" لمارشال هو النص المهيمن لعقود، وتخرجت أجيال من الاقتصاديين وهم يستخدمون رسومه البيانية بهذا الشكل. أصبح هذا هو "الطبيعي" والمتعارف عليه في المهنة.
  2. الاعتماد على المسار التاريخي (Path Dependency): بمجرد أن يصبح تقليد ما هو المعيار، يصبح تغييره صعبًا ومكلفًا. يتطلب الأمر إعادة تعلم وتكييف للجميع، وإعادة طباعة للمناهج والكتب.
  3. القصور الذاتي التعليمي: يعلم الأساتذة بالطريقة التي تعلموا بها، والكتب الدراسية تتبع التقليد السائد لضمان القبول الواسع.
  4. الفعالية العملية: على الرغم من "الغرابة" النظرية، فإن هذه الرسوم البيانية تعمل بشكل جيد جدًا في تحليل الأسواق. فهي تسمح بسهولة برؤية توازن السوق، وفائض المستهلك والمنتج، وتأثيرات الضرائب والإعانات، وتحليل المرونات. الأداة، وإن كانت غير تقليدية في شكلها، فعالة في وظيفتها التحليلية.
  5. وجهة النظر البديلة: في بعض التحليلات المتقدمة (مثل دوال الطلب أو العرض العكسية حيث

يكون وضع السعر على المحور الرأسي منطقيًا تمامًا حتى من الناحية الرياضية.

  1. لغة مشتركة: أصبح هذا الرسم لغة بصرية موحدة يفهمها الاقتصاديون حول العالم. وقد يحدث تغييرها بلبلة أكثر مما يحل مشكلة.

رأي مانكيو والاقتصاديين المعاصرين (راجع هنا):

جريجوري مانكيو (N. Gregory Mankiw)، مؤلف أحد أشهر الكتب الدراسية في مبادئ الاقتصاد المستخدمة عالميًا اليوم، هو مثال جيد لكيفية تعامل الاقتصاديين المعاصرين مع هذا الإرث.

  • يتبع التقليد: في كتابه "مبادئ الاقتصاد الجزئي" (Principles of Microeconomics)، يضع مانكيو السعر (P) على المحور الرأسي والكمية (Q) على المحور الأفقي، تمامًا كما فعل مارشال وكما يفعل الغالبية العظمى من الاقتصاديين.
  • يعترف بالمفارقة: مانكيو، مثل العديد من المؤلفين الجيدين، لا يتجاهل الأمر. عادة ما يشير، ربما في حاشية أو مربع نصي، إلى أن هذا الوضع "غير معتاد" مقارنة بالرياضيات، حيث يكون المتغير المستقل عادة على المحور الأفقي.
  • يشرح السبب: يوضح أن هذا التقليد يعود إلى ألفريد مارشال وأسباب تاريخية. هو لا يجادل في صحة التقليد من عدمه، بل يقدمه كـ "عرف" قائم في علم الاقتصاد يجب على الطالب تعلمه وفهمه كما هو.
  • يركز على التطبيق: ينصب تركيز مانكيو وغيره من مؤلفي الكتب الدراسية على تعليم الطلاب كيفية استخدام هذه الرسوم البيانية كأدوات لتحليل المشاكل الاقتصادية، وليس على إصلاح "خطأ" تاريخي.

بشكل عام، يقبل معظم الاقتصاديين اليوم هذا الوضع كأمر واقع وجزء من لغة تخصصهم. قد يعلق البعض على المفارقة بابتسامة، لكن قلة قليلة تدعو بجدية لتغيير هذا التقليد الراسخ بسبب تكاليف التحول وعدم وجود فائدة عملية كبيرة من التغيير طالما أن الجميع يفهم المقصود.

إذًا، وضع السعر على المحور الرأسي والكمية على المحور الأفقي في رسوم العرض والطلب ليس خطأً مطبعيًا أو سوء فهم، بل هو إرث تاريخي يعود إلى ألفريد مارشال ومنطقه الخاص في وقته. ورغم أنه قد يبدو متعارضًا مع الممارسة الرياضية القياسية عند النظر إلى الكمية كدالة للسعر، فقد أصبح هذا التقليد هو المعيار المقبول والمستخدم عالميًا في علم الاقتصاد لفعاليته العملية وقوة العادة. الاعتراف بهذا الأصل التاريخي يساعد الطلاب والممارسين على تجاوز الارتباك الأولي والتركيز على استخدام هذه الأداة القوية لفهم كيف تعمل الأسواق.



 أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد الكلي والقياسي

0 comments:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة

22385