بحث في هذه المدونة

متى تسقط الأصفار؟ نظرة نقدية على توقيت وشروط عملية إصلاح العملة بعد الأزمة

 

صورة تحتوي على تلبيس, الوجه الإنساني, رجل, بناء

قد يكون المحتوى المعد بواسطة الذكاء الاصطناعي غير صحيح.

أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي (الرياض)

مقدمة

كثيراً ما نصادف في البلدان التي عانت من تضخم جامح أو صدمات اقتصادية عنيفة – كتلك التي تعصف بالاقتصاد السوري منذ سنوات جراء الحرب والضغوطات المتعددة، مما أدى إلى تآكل شديد في القوة الشرائية لعملتها الوطنية – مشهداً مألوفاً: أوراق نقدية تحمل أعداداً هائلة من الأصفار، يصبح حمل النقود أشبه بحمل حزم من الورق، وتصبح الحسابات اليومية معقدة ومربكة. في خضم هذه الفوضى النقدية، يطفو على السطح غالباً مقترح "حذف الأصفار" من العملة، كحل سحري لاستعادة القيمة المفقودة وتسهيل التعاملات. السؤال الحاسم الذي يطرح نفسه في هذا السياق، ليس كيف نحذف الأصفار، بل متى يمكن لهذا الإجراء أن يكون مجدياً ومستداماً، وما هي الشروط الأساسية التي يجب توفرها لضمان ألا تعود الأصفار لتطارد الاقتصاد مرة أخرى، خاصة في سياقات معقدة كسوريا حيث تتداخل العوامل الاقتصادية بالسياسية والأمنية.

ليست مجرد عملية حسابية: لماذا تُحذف الأصفار؟

إن تراكم الأصفار على العملة الورقية ليس مجرد مشكلة شكلية؛ أو حتى انهيار القوة الشرائية لوحدة النقد الجارية، له تداعيات عملية ونفسية عميقة. من الناحية العملية، يؤدي إلى صعوبة في إجراء العمليات الحسابية، وزيادة تكاليف طباعة الأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة جداً، وتعقيد أنظمة المحاسبة والمدفوعات الإلكترونية. نفسياً، يشير وجود عدد كبير من الأصفار إلى فقدان العملة لقيمتها، ويقوض ثقة المواطنين بها، وهو ما يلاحظ بوضوح في تعاملات السوريين اليومية وتوجههم نحو عملات أجنبية أو أصول أخرى للحفاظ على قيمة مدخراتهم. لذا، فإن عملية حذف الأصفار (أو ما يسمى Re-denomination في الأدبيات الاقتصادية) تهدف إلى تبسيط المعاملات، وتقليل التكاليف، وإعادة بناء بعض من الثقة النفسية في العملة الوطنية عبر جعل الأرقام تبدو "طبيعية" مرة أخرى. لكن هذه الأهداف لن تتحقق أو تستدام ما لم يتم التعامل مع الأسباب الجذرية التي أدت إلى تضخم الأصفار في المقام الأول، وهي تحديات بنيوية عميقة في الحالة السورية تتجاوز مجرد السياسة النقدية.

إن قرار حذف الأصفار، في جوهره، ليس مجرد تغيير فني لورقة النقد، بل هو إعلان اقتصادي وسياسي ذو دلالات عميقة. إنه عملية معقدة تتطلب توقيتاً محسوباً وظروفاً اقتصادية كلية مواتية. لا يمكن النظر إليه كعلاج سحري يشفي الاقتصاد من أمراضه المزمنة، بل هو أقرب إلى تتويج لجهود إصلاحية هيكلية سبقت، وغالباً ما يمثل الحلقة الأخيرة في برنامج استقرار اقتصادي شامل وطويل الأمد. وتجدر الملاحظة أن عملية إعادة التسمية هذه، في حد ذاتها، هي إجراء رمزي بالدرجة الأولى، إذ لا تمس بشكل مباشر قيمة العملة الحقيقية أو سعر صرفها مقابل العملات الأخرى، بقدر ما تهدف إلى تعديل الإدراك النفسي والعملي لقيمتها. يجمع خبراء الاقتصاد على أن اللجوء إلى هذا الخيار يصبح مبرراً ومنطقياً فقط عندما تكون الدولة قد برهنت بالفعل على قدرتها على لجم التضخم المفرط، واستعادت قدراً ملموساً من الاستقرار والسيطرة على مؤشراتها الاقتصادية الكلية.

الشروط الموضوعية لنجاح العملية: متى يكون التوقيت مناسباً؟

إن الخطأ الأكبر الذي يمكن أن تقع فيه دولة عانت من أزمة نقدية – وسوريا مثال صارخ على ذلك مع استمرار تدهور قيمة الليرة – هو اللجوء إلى حذف الأصفار كإجراء منعزل أو كحل سريع قبل معالجة الاختلالات الهيكلية العميقة. إن توقيت هذه العملية حاسم ويجب أن يتم فقط بعد تحقيق مجموعة من الشروط الموضوعية الصلبة والمستدامة.

أول وأهم هذه الشروط هو السيطرة التامة على التضخم. لا يمكن البدء بعملية حذف الأصفار إلا بعد أن يكون معدل التضخم قد انخفض بشكل كبير ومستمر، واستقرت الأسعار عند مستويات مقبولة لفترة كافية. هذا يعني أن السياسات النقدية التي يديرها البنك المركزي يجب أن تكون فعالة في كبح جماح ارتفاع الأسعار، وأن يكون هناك التزام قوي ومستمر من قبل السلطات النقدية والمالية بعدم العودة إلى السياسات التضخمية التي أدت إلى الأزمة. إذا تم حذف الأصفار بينما لا يزال التضخم مرتفعاً، فإن الأصفار المحذوفة ستعود بسرعة، وسيصبح الإجراء مجرد عبث يقوض المصداقية بشكل أكبر.

الشرط الثاني هو تحقيق الانضباط المالي وتقليص عجز الموازنة. غالباً ما يكون التضخم الجامح نتيجة لتمويل الحكومة لنفقاتها عن طريق طباعة النقود (التمويل النقدي للعجز). لذا، يجب أن تكون الدولة قد أحرزت تقدماً ملموساً في إصلاحاتها المالية، بما في ذلك زيادة الإيرادات (عبر توسيع القاعدة الضريبية مثلاً) وترشيد الإنفاق العام، وتقليل الاعتماد على الاقتراض الداخلي والخارجي المفرط.

الشرط الثالث يتعلق بـ استقرار سعر الصرف الخارجي وتوفر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي. سعر الصرف هو مرآة لقوة العملة وثقة الأسواق بها. يجب أن يكون سعر الصرف قد استقر أو أصبح يدار بطريقة شفافة وموثوقة.

الشرط الرابع يكمن في استعادة الثقة العامة في النظام المصرفي والسياسة النقدية، وتوفر أسس اقتصادية كلية قوية. يجب أن يتمتع البنك المركزي بالمصداقية والاستقلالية الكافية.

أخيراً وليس آخراً، يجب أن يكون هناك استقرار سياسي واجتماعي نسبياً، وثقة عامة في قدرة الحكومة والبنك المركزي على إدارة الاقتصاد بمسؤولية. في الحالة السورية، يمثل هذا الشرط تحدياً خاصاً نظراً للظروف الراهنة.

بمعنى آخر، فإن حذف الأصفار هو بمثابة وضع القشرة النهائية على كعكة الاستقرار الاقتصادي التي تم خبزها بصعوبة بالغة.

الآليات التنفيذية: الجانب الفني للعملية

بمجرد توفر الشروط الموضوعية، تبدأ المرحلة الفنية والإدارية لعملية حذف الأصفار. تتضمن هذه المرحلة عدة خطوات أساسية تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتنسيقاً عالياً:

  1. القرار القانوني: يتم إصدار تشريع جديد (قانون أو مرسوم) يحدد الفئة الجديدة للعملة وكيفية تحويل الفئات القديمة إليها (مثلاً: 1 وحدة عملة جديدة = 1,000 أو 10,000 أو 1,000,000 وحدة عملة قديمة). يحدد القانون أيضاً اسم العملة الجديدة (قد يظل الاسم كما هو أو يتغير مع إضافة لاحقة مثل "جديد").
  2. طباعة العملة الجديدة: يتم تصميم وطباعة أوراق نقدية وعملات معدنية بالفئات الجديدة. يجب أن تتم هذه العملية بسرية وأمن شديدين.
  3. التداول المزدوج: يتم عادة تحديد فترة زمنية يتم خلالها تداول كل من العملة القديمة والجديدة معاً. يسمح هذا للمواطنين والمؤسسات بالتكيف مع التغيير واستبدال العملات القديمة بالجديدة تدريجياً.
  4. التثقيف والتوعية العامة: هذه خطوة حاسمة. يجب إطلاق حملة إعلامية وتوعوية واسعة النطاق لشرح التغيير للمواطنين، وكيفية التحويل بين الفئات القديمة والجديدة، وكيفية تسعير السلع والخدمات بالعملة الجديدة. يهدف هذا إلى تجنب الارتباك والتلاعب بالأسعار.
  5. تحديث الأنظمة: يتطلب هذا الإجراء تحديث جميع الأنظمة المحاسبية والمصرفية وأنظمة المدفوعات ونقاط البيع لتتعامل مع الفئات الجديدة.

هذه الآليات تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتنسيقاً عالياً بين البنك المركزي والبنوك التجارية والقطاع الخاص والحكومة. ومع ذلك، فإن نجاح العملية على المدى الطويل لا يتوقف على سلاسة هذه الآليات الفنية، بل على مدى استدامة الاستقرار الاقتصادي الذي بنيت عليه. تجربة إندونيسيا، على سبيل المثال، تضمنت خطة متعددة المراحل شملت التوعية، ثم الانتقال، فسحب العملة القديمة، وصولاً إلى الاعتماد الكلي على العملة الجديدة.

إمكانيات النجاح ومخاطر الفشل: تجارب دولية مفصلة

إن إمكانية نجاح عملية حذف الأصفار مرتبطة طردياً بمدى التزام الدولة بالسياسات الاقتصادية السليمة بعد تنفيذ الإجراء. لكن المخاطر قائمة، وأبرزها خطر الفشل في الحفاظ على الاستقرار بعد الحذف.

·        التجربة التركية (2005): نموذج للانضباط المسبق

تُعد تجربة تركيا في حذف ستة أصفار من الليرة عام 2005 واحدة من أبرز الأمثلة الناجحة نسبياً في العصر الحديث. لم يأتِ هذا القرار من فراغ أو كخطوة معزولة، بل كان تتويجاً لسنوات من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الصارمة التي بدأت في مطلع الألفية بدعم من صندوق النقد الدولي. عانت تركيا لعقود من تضخم مزمن ومعدلات فائدة مرتفعة، مما أضعف ثقة المستثمرين والمواطنين على حد سواء في الليرة. برنامج الاستقرار الذي تبنته الحكومة ركز على عدة محاور أساسية: استقلالية البنك المركزي وتشديد السياسة النقدية لاستهداف التضخم، إصلاحات جذرية في القطاع المصرفي الذي كان يعاني من هشاشة كبيرة، انضباط مالي حكومي صارم لتقليل عجز الموازنة والحد من الدين العام، بالإضافة إلى تحرير التجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.

بحلول عام 2004، كانت تركيا قد نجحت في خفض معدل التضخم السنوي من مستويات ثلاثية الأرقام إلى ما يقارب 10%، وهو إنجاز كبير مهد الطريق لعملية إعادة تقييم العملة. جاء حذف الأصفار ليُبسط المعاملات اليومية، ويقلل تكاليف المحاسبة، والأهم من ذلك، ليعكس رمزياً دخول الاقتصاد التركي مرحلة جديدة من الاستقرار والمصداقية. تم التخطيط للعملية بعناية، مع حملة توعية واسعة وفترة تداول مزدوج لليرتين القديمة والجديدة. ساهمت هذه الخطوة في تعزيز الثقة بالليرة التركية "الجديدة" في الأسواق المحلية والدولية، وسهلت اندماج تركيا بشكل أكبر في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن استدامة هذا النجاح ارتبطت باستمرار الالتزام بالسياسات الاقتصادية الحصيفة، وأي تراجع عن هذه السياسات، كما شهدت تركيا في فترات لاحقة، يمكن أن يعيد الضغوط التضخمية ويقوض المكاسب التي تحققت.

·        البرازيل وخطة ريال (1994): هندسة نقدية مبتكرة

تعتبر "خطة ريال" البرازيلية لعام 1994 حالة دراسية فريدة ومبتكرة في تاريخ مكافحة التضخم المفرط وإصلاح العملة. قبل هذه الخطة، عانت البرازيل لعقود طويلة من تضخم مزمن وعنيف، فشلت خلالها محاولات عديدة لتثبيت الأسعار، بما في ذلك عدة عمليات لتغيير العملة وحذف الأصفار لم تدم طويلاً. المشكلة الأساسية كانت "الفهرسة" (Indexation) المنتشرة على نطاق واسع، حيث كانت الأجور والعقود والأسعار تُعدل تلقائياً وبشكل متكرر بناءً على معدلات التضخم السابقة، مما خلق حلقة مفرغة من التوقعات التضخمية الذاتية التحقق.

جاءت خطة ريال بفكرة عبقرية تمثلت في إنشاء "وحدة القيمة الحقيقية" (Unidade Real de Valor - URV)، وهي وحدة حساب غير متداولة (ولكنها تستخدم في تحديد الأسعار والعقود) كانت قيمتها تُعدل يومياً مقابل الدولار الأمريكي، وبالتالي ظلت مستقرة نسبياً بالقيمة الحقيقية. تم تشجيع وتحفيز جميع الفاعلين الاقتصاديين على تحويل أسعارهم وعقودهم تدريجياً إلى الـ URV. وعندما أصبحت معظم الأسعار مقومة بهذه الوحدة المستقرة، وفي يوم محدد (1 يوليو 1994)، تم إطلاق العملة الجديدة "الريال" بقيمة تعادل وحدة URV واحدة. هذا الانتقال السلس نسبياً كسر دوامة الفهرسة والتوقعات التضخمية. ترافق هذا الإجراء النقدي المبتكر مع سياسات مالية تقشفية، وإصلاحات هيكلية، وفتح الاقتصاد، مما ساهم في نجاح الخطة بشكل كبير في القضاء على التضخم المفرط وإعادة الثقة في العملة. يوضح هذا المثال أهمية معالجة الآليات المؤسسية والسلوكية التي تغذي التضخم، وليس فقط الأعراض.

·        زيمبابوي: دروس في فشل الإصلاحات الشكلية

تقدم تجربة زيمبابوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مثالاً صارخاً على فشل عمليات حذف الأصفار عندما لا تكون مصحوبة بإصلاحات اقتصادية جوهرية لمعالجة الأسباب الجذرية للتضخم المفرط. شهدت البلاد واحدة من أسوأ نوبات التضخم المفرط في التاريخ المسجل، حيث وصلت معدلات التضخم إلى أرقام فلكية يصعب تصورها، وأصبحت الأوراق النقدية تحمل فئات تصل إلى مئات التريليونات من الدولارات الزيمبابوية.

خلال هذه الفترة، قامت السلطات النقدية في زيمبابوي بعدة محاولات لحذف الأصفار من العملة. في عام 2006، تم حذف ثلاثة أصفار. وفي عام 2008، تم حذف عشرة أصفار. وفي أوائل عام 2009، تم حذف اثني عشر صفراً أخرى. كل هذه المحاولات كانت مجرد إجراءات شكلية لم يكن لها أي تأثير يذكر على وقف التدهور الكارثي لقيمة العملة. السبب الرئيسي لهذا الفشل هو أن الحكومة استمرت في تمويل عجز ميزانيتها الضخم عن طريق طباعة النقود بكميات هائلة، ولم تتخذ أي خطوات جادة لإصلاح السياسة المالية، أو استعادة الانضباط النقدي، أو معالجة الانهيار في الإنتاج الزراعي والصناعي، أو بناء الثقة في المؤسسات الاقتصادية.

كانت عمليات حذف الأصفار مجرد محاولات يائسة لتبسيط المعاملات التي أصبحت مستحيلة بسبب كثرة الأصفار، لكنها لم تخدع أحداً. سرعان ما كانت الأصفار تعود للظهور على العملة "الجديدة" بوتيرة أسرع من ذي قبل، مما أدى إلى تآكل كامل للثقة في الدولار الزيمبابوي. في النهاية، اضطرت زيمبابوي إلى التخلي رسمياً عن عملتها الوطنية في عام 2009، وتبنت نظاماً متعدد العملات يعتمد بشكل أساسي على الدولار الأمريكي والراند الجنوب أفريقي. تجربة زيمبابوي هي تذكير قوي بأن حذف الأصفار لا يمكن أن يكون بديلاً عن الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية والالتزام بسياسات سليمة.

·        ألمانيا وإصلاح المارك (1948): بناء الثقة من تحت الأنقاض

تُعد عملية إصلاح العملة في ألمانيا الغربية عام 1948، والتي شهدت إدخال المارك الألماني (Deutsche Mark)، واحدة من اللحظات الفارقة في تاريخ "المعجزة الاقتصادية الألمانية" (Wirtschaftswunder) بعد الحرب العالمية الثانية. لم تكن مجرد عملية حذف أصفار بالمعنى التقليدي، بل كانت استبدالاً كاملاً للرايخ مارك الذي فقد قيمته تماماً بسبب التضخم المفرط الذي أعقب الحرب، والتمويل الهائل للمجهود الحربي، وانهيار الإنتاج، وتقسيم البلاد.

جاء إصلاح العملة كجزء من حزمة أوسع من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية التي قادها لودفيج إيرهارد. تم استبدال الرايخ مارك بالمارك الألماني الجديد بمعدل تحويل قاسٍ، حيث حصل كل مواطن على مبلغ أولي صغير بالعملة الجديدة، وتم تحويل المدخرات والديون بمعدلات مختلفة أدت إلى خسائر كبيرة للبعض، ولكنها كانت ضرورية لامتصاص الكتلة النقدية الهائلة عديمة القيمة. الأهم من ذلك، تزامن إصلاح العملة مع إلغاء معظم ضوابط الأسعار والتقنين، وتحرير الأسواق، وإنشاء بنك مركزي مستقل (بنك الأراضي الألمانية، الذي تطور لاحقاً إلى البنك الاتحادي الألماني "بوندسبانك") مُنح صلاحيات واضحة للحفاظ على استقرار العملة.

كان لهذا الإصلاح الجذري تأثير فوري وصادم. اختفت السوق السوداء تقريباً بين عشية وضحاها، وامتلأت واجهات المتاجر بالسلع، وعادت الحوافز للإنتاج والعمل. على الرغم من الصعوبات الأولية وارتفاع البطالة لفترة، إلا أن إصلاح العملة، مقترناً بالسياسات الاقتصادية الجديدة ومساعدات خطة مارشال، وضع الأساس لسنوات من النمو الاقتصادي القوي والمستدام وانخفاض التضخم. الدرس الرئيسي من التجربة الألمانية هو أن إصلاح العملة، حتى لو كان مؤلماً، يمكن أن يكون ناجحاً بشكل كبير إذا كان جزءاً من تحول شامل نحو اقتصاد سوق منظم وسياسات نقدية ومالية مسؤولة، وقبل كل شيء، إذا نجح في استعادة الثقة بشكل حاسم.

 

في الختام، إن عملية حذف الأصفار من العملة ليست عصا سحرية، بل هي أشبه بلمسة نهائية ضرورية ومفيدة، لكنها لا تكتسب جدواها إلا إذا جاءت في سياق أوسع من التعافي الاقتصادي المستدام، وكتتويج لجهود جبارة ومستمرة. يجب أن تكون الأسس الاقتصادية الكلية قد استقرت، وأن تكون الثقة قد بدأت بالعودة، وأن تكون هناك إرادة سياسية والتزام بالإصلاحات. بالنسبة لدولة مثل سوريا، التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية متشابكة، فإن أي تفكير في مثل هذا الإجراء يجب أن يكون جزءاً من رؤية شاملة لإعادة بناء الاقتصاد والمؤسسات، ومعالجة الأسباب الجذرية للتضخم وتدهور العملة، وليس مجرد محاولة تجميلية. عندها فقط، يمكن لحذف الأصفار أن يساهم في تبسيط المعاملات، وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية، وطي صفحة الماضي المؤلم، ليكون بمثابة إشارة رمزية قوية على بداية عهد جديد من التعافي والازدهار الاقتصادي. أما دون ذلك، فسيظل مجرد تغيير في الشكل لا يمس جوهر المشكلة، وقد يؤدي إلى خيبة أمل جديدة تزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي المأزوم.

 

المراجع:

  1. Edwards, S. (1997). Crisis and Reform in Latin America: From Despair to Hope. Oxford University Press.
  2. Hanke, S. H., & Kwok, A. K. (2009). On the Measurement of Zimbabwe's Hyperinflation. Cato Journal, 29(2), 353-364.
  3. Mosley, L. (2005). Dropping Zeros, Gaining Credibility? Currency Redenomination in Developing Nations. Unpublished manuscript, Department of Political Science, University of North Carolina at Chapel Hill. (While unpublished, this type of working paper is often cited in academic discourse if it presents a coherent argument or data).
  4. Özatay, F., & Sak, G. (2002). The 2000-2001 Financial Crisis in Turkey. In: M. Uzan (Ed.), The Turkish Economy in Crisis. Frank Cass Publishers.
  5. Uğurlu, E. (2006). Currency Redenomination and Numerical Effects: The Turkish Case. Central Bank Review, Central Bank of the Republic of Turkey, 6(1), 1-16.

 

Empowering Local Universities vs. Importing Foreign Models: A Path Towards Culturally Rooted Higher Education Excellence

 

Amidst the ongoing debate surrounding the importation of foreign universities as a solution to elevate educational standards, a central question arises: do local universities possess the inherent capacity to enhance their performance independently? Some argue that importing foreign universities could facilitate technology transfer and improve scientific research. However, this approach carries cultural and social risks that could lead to the marginalization of local identity. Education is not merely a commodity to be bought and sold; it is a civilizational endeavor aimed at nurturing individuals in accordance with their cultural identity and societal values. Hence, developing local education becomes an urgent necessity, emphasizing cultural and societal values that students can internalize and disseminate within their communities.

University education is not solely a means of knowledge transmission; it is an effective tool for instilling the cultural and social values that support the building of a strong and cohesive society. As noted by sociologist Ibrahim Khalifa in his study on the role of education in building cultural identity, education contributes to shaping individuals' awareness of societal values and ethical principles. Carefully embedding cultural heritage and local values into curricula enables students to internalize these values and disseminate them within their communities, thereby positioning graduates as effective ambassadors of these values in their professional and social paths. For instance, incorporating activities such as participation in traditional celebrations or learning folk arts enhances pride in local culture and contributes to heritage preservation.


A modern university with a glass facade or contemporary architectural design, located next to a well-known archaeological site or national monument in the city. In the foreground plaza, diverse students converse or participate in a cultural activity, while details of the historical landmark are clearly visible in the background, the scene reflecting the interaction between academic modernity and national identity.


Furthermore, local universities can enhance educational quality by adopting diverse strategies that bolster their academic and cultural roles.

Firstly, adopting Total Quality Management (TQM) serves as a fundamental pillar for the continuous improvement of educational performance. As W. Edwards Deming (1900-1993), a pioneer of the TQM movement, emphasized, applying its principles necessitates a focus on the perpetual development of all aspects of the educational process. Establishing effective systems for performance monitoring and data analysis to identify and systematically address shortcomings is a vital step in this direction.

Secondly, developing curricula that reflect the university's strategic objectives and the community's cultural values is essential. For example, Al-Azhar University in Egypt has developed programs incorporating coursework that blends modern sciences with Islamic heritage, enabling students to understand their cultural identity while acquiring advanced academic skills. In Europe, the experience of the University of Helsinki in Finland stands out, focusing on integrating humanistic and environmental values into curricula to foster critical thinking and social responsibility among students.

Thirdly, investing in faculty members is one of the most critical factors for elevating educational quality. Their competence can be enhanced through continuous training programs and workshops focused on the latest pedagogical trends and educational technologies. The MORHEL project in Morocco serves as a successful example, aimed at enhancing academic leadership by training 132 leaders and managers in Moroccan higher education institutions in partnership with European universities such as the University of Granada in Spain. This project has resulted in improved governance practices and strategic planning within these institutions.

Fourthly, strengthening scientific research is a fundamental pillar for advancing the standard of higher education. Establishing specialized research centers and supporting collaboration between universities and industrial institutions facilitates the development of innovative solutions that serve the local community. Tunisia's experience in establishing the "Cité des Sciences" (City of Sciences) as an integrated research and educational center is a successful example of how scientific research can be leveraged to support national development. Germany stands out as a model with its 'Forschungscampus' program, an outstanding initiative fostering long-term partnerships between universities and industrial sectors aimed at driving technological development and innovation.

Fifthly, digital transformation has become an imperative for advancing the educational process. Creating digital learning platforms, such as Jordan's 'Edraak' platform for open online education, provides a comprehensive learning experience for students and enhances interaction between them and faculty members. As noted in a European Union report on digital education, the use of modern technologies offers effective assessment tools and contributes to improving the quality of the educational process.

Finally, instead of importing foreign universities, local universities can strengthen international and local partnerships to exchange expertise and design joint programs without compromising the cultural identity of the local community. The collaboration between Qatar University and University College London to establish joint educational programs focusing on environmental challenges and sustainable development serves as an example.


In conclusion, elevating the quality of university education does not necessitate importing foreign universities. Rather, it depends on developing curricula that embody the community's cultural values, supporting academic staff, strengthening scientific research, and focusing on digital transformation and sustainable development. Education is not merely an academic pursuit; it is an effective tool for instilling cultural and social values that support the building of a strong and cohesive society. When local culture is integrated into education, students become ambassadors of these values within their communities, leading to the reinforcement of national identity, social bonds, and respect for cultural diversity. In this way, local universities can achieve tangible progress in educational quality without needing to import foreign models that may not align with the community's aspirations and civilizational identity.

 

أبعد من الاستيراد: بناء جامعات وطنية بمعايير عالمية وروح محلية

 

في خضم الجدل الدائر حول استيراد الجامعات الأجنبية كحل لرفع مستوى التعليم، يتصاعد تساؤل محوري: هل تمتلك الجامعات المحلية القدرة على الارتقاء بأدائها ذاتياً؟ يرى البعض أن استيراد الجامعات الأجنبية قد يساعد في نقل التكنولوجيا وتحسين البحث العلمي، لكن هذا النهج يحمل في طياته مخاطر ثقافية واجتماعية قد تفضي إلى تهميش الهوية المحلية. فالتعليم ليس مجرد سلعة تُباع وتُشترى؛ بل هو مسعى حضاري يهدف إلى تنشئة الإنسان وفقًا لهويته الثقافية وقيمه المجتمعية. من هنا، يصبح تطوير التعليم المحلي ضرورة ملحّة، مع التركيز على القيم الثقافية والمجتمعية التي يمكن أن يستوعبها الطلاب وينشروها في محيطهم.

التعليم الجامعي ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو أداة فاعلة في غرس القيم الثقافية والاجتماعية التي تدعم بناء مجتمع قوي ومتلاحم. وكما أشار عالم الاجتماع إبراهيم خليفة في دراسته حول دور التربية في بناء الهوية الثقافية، فإن التعليم يسهم في تشكيل وعي الأفراد بالقيم المجتمعية والمبادئ الأخلاقية. إن تضمين التراث الثقافي والقيم المحلية بعناية في المناهج الدراسية يمكّن الطلاب من استيعاب هذه القيم ونشرها في مجتمعاتهم، ليصبح الخريجون بذلك سفراء فاعلين لها في مساراتهم المهنية والاجتماعية. وعلى سبيل المثال، فإن إدراج الأنشطة المدرسية كالمشاركة في الاحتفالات التقليدية أو تعلم الفنون الشعبية يعزز الشعور بالفخر بالثقافة المحلية ويسهم في صون التراث.

"جامعة حديثة بواجهة زجاجية أو تصميم هندسي معاصر، تقع بجوار معلم أثري أو نصب وطني معروف في المدينة. في الساحة الأمامية، طلاب من خلفيات متنوعة يتبادلون الحديث أو يشاركون في نشاط ثقافي، بينما تظهر في الخلفية تفاصيل المعلم التاريخي بوضوح، ليعكس المشهد التفاعل بين الحداثة الأكاديمية والهوية الوطنية.".png

إلى جانب ذلك، يمكن للجامعات المحلية الارتقاء بجودة التعليم من خلال تبني استراتيجيات متنوعة تعزز من دورها الأكاديمي والثقافي. أولاً، يمثل تبني إدارة الجودة الشاملة ركيزة أساسية للتحسين المستمر للأداء التعليمي، حيث يؤكد إدوارد ديمنج (1900-1993)، رائد حركة إدارة الجودة الشاملة TQM، على أن تطبيق مبادئها يستلزم التركيز على التطوير الدائم لكافة جوانب العملية التعليمية. ويعد إنشاء أنظمة فعالة لرصد الأداء وتحليل البيانات للكشف عن الثغرات ومعالجتها بشكل منتظم خطوة حيوية في هذا الاتجاه.

ثانياً، يعد تطوير المناهج الدراسية بما يعكس الأهداف الاستراتيجية للجامعة والقيم الثقافية للمجتمع أمراً جوهرياً. فعلى سبيل المثال، قامت جامعة الأزهر في مصر بتطوير برامجها لتشمل مواد دراسية تجمع بين العلوم الحديثة والتراث الإسلامي، مما مكن الطلاب من فهم هويتهم الثقافية بالتوازي مع اكتساب مهارات أكاديمية متقدمة. وفي أوروبا، تبرز تجربة جامعة هلسنكي في فنلندا التي تركز على دمج القيم الإنسانية والبيئية في المناهج الدراسية لتعزيز التفكير النقدي والمسؤولية الاجتماعية لدى الطلاب.

ثالثاً، يمثل الاستثمار في أعضاء هيئة التدريس أحد أهم العوامل لرفع جودة التعليم. ويمكن تعزيز كفاءتهم من خلال برامج تدريبية مستمرة وورش عمل تركز على أحدث الاتجاهات التربوية والتقنيات التعليمية. ويُعد مشروع MORHEL في المغرب مثالاً ناجحًا يهدف إلى تعزيز القيادة الأكاديمية من خلال تدريب 132 من القادة والمديرين في مؤسسات التعليم العالي المغربية بالشراكة مع جامعات أوروبية كجامعة غرناطة الإسبانية، وقد أثمر هذا المشروع في تحسين ممارسات الحوكمة والتخطيط الاستراتيجي داخل تلك المؤسسات.

رابعاً، يعتبر تعزيز البحث العلمي دعامة أساسية للارتقاء بمستوى التعليم العالي. ويتيح إنشاء مراكز بحثية متخصصة ودعم التعاون بين الجامعات والمؤسسات الصناعية تطوير حلول مبتكرة تخدم المجتمع المحلي. وتعد تجربة تونس في إنشاء "مدينة العلوم" كمركز بحثي وتعليمي متكامل مثالاً ناجحًا على كيفية توظيف البحث العلمي لدعم التنمية الوطنية. وتبرز ألمانيا كنموذج يحتذى به من خلال برنامج Forschungscampus "فورشونغسكامبوس"، الذي يمثل مبادرة متميزة لتعزيز شراكات طويلة الأمد بين الجامعات والقطاعات الصناعية بهدف دفع عجلة تطوير التكنولوجيا والابتكار.

خامساً، أصبح التحول الرقمي ضرورة حتمية لتطوير العملية التعليمية. ويوفر إنشاء منصات تعليمية رقمية كمنصة "إدراك" الأردنية للتعليم المفتوح عبر الإنترنت تجربة تعليمية شاملة للطلاب ويعزز التفاعل بينهم وبين أعضاء هيئة التدريس. وكما أشار تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي حول التعليم الرقمي، فإن استخدام التقنيات الحديثة يوفر أدوات تقييم فعالة ويسهم في تحسين جودة العملية التعليمية.

وأخيراً، بدلاً من استيراد الجامعات الأجنبية، يمكن للجامعات المحلية تعزيز الشراكات الدولية والمحلية لتبادل الخبرات وتصميم برامج مشتركة دون المساس بالهوية الثقافية للمجتمع المحلي. ويعد التعاون بين جامعة قطر وجامعة كوليدج لندن لإنشاء برامج تعليمية مشتركة تركز على التحديات البيئية والتنمية المستدامة مثالاً على ذلك.



إن الارتقاء بجودة التعليم الجامعي لا يتطلب استيراد الجامعات الأجنبية؛ بل يعتمد على تطوير المناهج الدراسية التي تجسد القيم الثقافية للمجتمع، ودعم الكوادر الأكاديمية، وتعزيز البحث العلمي مع التركيز على التحول الرقمي والتنمية المستدامة. فالتعليم ليس مجرد مسعى أكاديمي، بل هو أداة فاعلة في غرس القيم الثقافية والاجتماعية التي تدعم بناء مجتمع قوي ومتلاحم. وعندما يتم دمج الثقافة المحلية في التعليم، يصبح الطلاب سفراء لهذه القيم في مجتمعاتهم، مما يؤدي إلى تعزيز الهوية الوطنية والروابط الاجتماعية واحترام التنوع الثقافي. وبهذه الطريقة، يمكن للجامعات المحلية تحقيق تقدم ملموس في جودة التعليم دون الحاجة إلى استيراد نماذج أجنبية قد لا تتوافق مع تطلعات المجتمع وهويته الحضارية.

 

أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي

الرياض-السعودية

صندوق مساعدة دولي: فكرة مبتكرة لدعم إعادة إعمار سوريا رغم العقوبات

 

" في عالم مليء بالتحديات المعقدة، يجب أن نبحث دائمًا عن حلول مبتكرة تتجاوز العقبات وتضع الإنسان أولاً."

 

في ظل الدمار الهائل الذي خلفته سنوات الحرب الطويلة في سوريا، تتطلب عملية إعادة الإعمار حلولًا مبتكرة تتجاوز العقبات السياسية والاقتصادية التي تعيق التقدم. من بين أبرز التحديات التي تواجه هذه العملية هي العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، والتي تشمل قيودًا صارمة على البنك المركزي السوري وخروجه من نظام التحويلات العالمي (SWIFT). هذه العقوبات تجعل من الصعب تأمين التمويل اللازم لإعادة بناء القطاعات الحيوية مثل الكهرباء، الاتصالات، الصحة، والتعليم. وفي مواجهة هذه التحديات، تبرز فكرة إنشاء صندوق مساعدة دولي في دول الجوار كحل عملي وفعّال.

الأزمة السورية: الحاجة إلى حلول عاجلة

 اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، تعرضت البنية التحتية للبلاد لدمار شامل أثر على جميع مناحي الحياة. فقطاع الكهرباء، الذي يُعد شريان الحياة لأي دولة، يعاني من خسائر فادحة تُقدر بنحو 35 مليار دولار (انقرهنا)، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر وشلل تام في الخدمات الأساسية التي تعتمد عليه. أما قطاع الصحة، فالوضع لا يقل كارثية؛ حيث تضررت المستشفيات والمراكز الصحية بشدة، وأصبح 57% فقط من المستشفيات تعمل بكامل طاقتها، و37% فقط من المراكز الصحية الأولية (انقرهنا)، مما جعل الحصول على الرعاية الصحية تحديًا يوميًا يواجهه المواطنون. وفي قطاع التعليم، تتجلى المأساة في حرمان ملايين الأطفال من حقهم الأساسي في التعليم؛ فبسبب تدمير المنشآت التعليمية أو نقص الموارد اللازمة لتشغيلها، يُقدر عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس بحوالي 2.45 مليون طفل(انقرهنا) (انقر هنا).



ورغم أن الحاجة إلى إعادة الإعمار واضحة وملحة، إلا أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا تزيد من صعوبة تحقيق هذا الهدف. القيود المفروضة على البنك المركزي السوري تجعل من المستحيل تقريبًا إجراء التحويلات المالية الدولية لتمويل مشاريع إعادة الإعمار، مما يترك البلاد في حلقة مفرغة من التدهور الاقتصادي والاجتماعي وربما الأمني أيضاً.

الفكرة: صندوق مساعدة دولي يتجاوز العقوبات

في مواجهة هذه التحديات المعقدة، تأتي فكرة إنشاء صندوق مساعدة دولي في دول الجوار كوسيلة لتجاوز العقوبات ودعم عملية إعادة الإعمار. يقوم هذا الصندوق بجمع الأموال من جهات مانحة دولية ومحلية، سواء كانت حكومات أو منظمات غير حكومية أو أفراد راغبين في المساهمة. يتم استخدام هذه الأموال لشراء المواد والمعدات اللازمة لإعادة بناء القطاعات الحيوية مثل الكهرباء والاتصالات والصحة والتعليم.



ما يجعل هذه الفكرة مبتكرة هو أنها تعتمد على إدخال المواد والمساعدات عبر المنافذ البرية إلى سوريا بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية. هذا النهج يتيح الالتفاف على القيود المفروضة على التحويلات المالية الدولية ويضمن وصول الدعم مباشرة إلى المناطق التي تحتاجه دون المرور عبر القنوات الرسمية المتأثرة بالعقوبات.

التنفيذ: الشفافية والشراكة

لضمان نجاح هذه الفكرة وتحقيق أهدافها الإنسانية والتنموية، يجب أن يتم تنفيذها وفق معايير صارمة من الشفافية والمساءلة. يمكن تحقيق ذلك من خلال التعاون الوثيق مع منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية التي تتمتع بمصداقية وخبرة في إدارة المشاريع الإنسانية. كما ينبغي إنشاء آليات رقابة لضمان استخدام الأموال بطريقة فعالة وموجهة نحو تحقيق الأهداف المحددة.

علاوة على ذلك، يمكن أن تلعب دول الجوار دورًا رئيسيًا في دعم هذا الصندوق، ليس فقط كمضيفين له ولكن أيضًا كشركاء استراتيجيين يساهمون في تسهيل العمليات اللوجستية وتوفير المواد اللازمة بأسعار تنافسية.

التأثير المتوقع: خطوة نحو التعافي

إذا تم تنفيذ هذه الفكرة بنجاح، فإنها يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا في حياة ملايين السوريين الذين يعانون يوميًا بسبب نقص الخدمات الأساسية. تحسين قطاع الكهرباء سيعيد تشغيل المصانع والمستشفيات والمدارس، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويخلق فرص عمل جديدة. دعم القطاع الصحي سيضمن حصول المواطنين على الرعاية الطبية التي يحتاجونها بشدة. أما الاستثمار في التعليم فسيعيد الأمل لجيل كامل من الأطفال الذين حُرموا من حقهم الأساسي في التعلم.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون هذا النموذج مصدر إلهام لحلول أخرى تتجاوز العقوبات وتضع مصالح الشعوب فوق كل الاعتبارات.

 

 

المعابر الحدودية السورية: تحديات وآفاق

 

في أعقاب سقوط نظام الأسد، تقف سوريا على مفترق طرق تاريخي يتيح لها فرصة فريدة لإعادة تشكيل مستقبلها الاقتصادي. وتبرز إعادة تأهيل المعابر الحدودية كأولوية قصوى في هذا المسعى، حيث تمثل هذه البوابات نقطة الانطلاق نحو الاندماج في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.

لقد عانت المعابر السورية طويلاً من سوء الاستخدام، حيث كانت تُستغل كقنوات لتهريب المخدرات تحت حكم النظام السابق. اليوم، يتعين على سوريا تحويل هذه المنافذ إلى محركات للتنمية الاقتصادية والتجارة المشروعة. هذا التحول يتطلب نهجاً شاملاً يعالج البنية التحتية والتكنولوجيا والموارد البشرية على حد سواء.

تحتاج المعابر السورية إلى إعادة بناء جذرية لبنيتها التحتية، بدءاً من الطرق والجسور وصولاً إلى المرافق اللوجستية. ويجب أن يتماشى هذا التحديث مع المعايير الدولية لضمان انسيابية حركة البضائع والأشخاص. كما أن تطبيق التكنولوجيا الحديثة، مثل أنظمة إدارة الحدود المتكاملة وأنظمة معلومات إدارة الحدود، سيكون حاسماً في تسريع عمليات التفتيش والتخليص الجمركي.


لا يقل أهمية عن ذلك تأهيل الكوادر البشرية العاملة في هذه المعابر. فتدريب الموظفين في مجالات الجمارك والأمن والخدمات اللوجستية، مع التركيز على مكافحة الفساد وتعزيز الكفاءة، سيكون ضرورياً لضمان عمل هذه المنافذ بفعالية. كما يتعين وضع إطار قانوني وتنظيمي جديد يتماشى مع المعايير الدولية لتسهيل التجارة وضمان الأمن.

يمكن لسوريا أن تستلهم من نماذج المعابر الحدودية المتطورة في الدول الرائدة في تجارة الترانزيت. فتطبيق مفاهيم مثل نقاط العبور الحدودية الموحدة وأنظمة النافذة الواحدة وبرامج المشغل الاقتصادي المعتمد من شأنه أن يعزز كفاءة العمليات الحدودية بشكل كبير.

إن نجاح سوريا في تحديث معابرها الحدودية سيكون له آثار إيجابية عميقة على اقتصادها. فمن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في حجم التجارة الخارجية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز مكانة سوريا كمركز إقليمي لتجارة الترانزيت. كما سيساهم في خلق فرص عمل جديدة وتحسين الإيرادات الحكومية من خلال تحصيل جمركي أكثر كفاءة.

نعيد التأكيد على إن إعادة تأهيل المعابر الحدودية السورية تمثل فرصة حاسمة لإعادة إدماج البلاد في الاقتصاد العالمي وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تنطوي عليها هذه العملية، فإن النجاح في هذا المسعى سيكون حجر الزاوية في بناء مستقبل اقتصادي مزدهر لسوريا، محولاً إياها من بلد منهك بالصراعات إلى لاعب إقليمي فاعل في مجال التجارة والترانزيت.

أ.د. عماد الدين المصبح

أكاديمي سوري

مفارقة المحاور: لماذا يقف السعر عموديًا في رسوم الاقتصاد الجزئي؟

 اللقاء الأول مع منحنى الطلب

لكل من يخطو خطواته الأولى في عالم الاقتصاد الجزئي، وخاصة عند دراسة العرض والطلب، هناك لحظة توقف ودهشة. عند رسم العلاقة بين السعر والكمية، نجد أنفسنا أمام تقليد راسخ يبدو للوهلة الأولى متعارضًا مع المنطق الرياضي المعتاد الذي تعلمناه: السعر (Price - P)، الذي غالبًا ما نفكر فيه كمؤثر أو متغير مستقل، يوضع على المحور الرأسي (Y)، بينما الكمية (Quantity - Q)، التي تتأثر بالسعر وتعتبر المتغير التابع، توضع على المحور الأفقي (X). لماذا هذا الانعكاس لما هو مألوف في الرياضيات والعلوم الأخرى، حيث يوضع المتغير المستقل أفقيًا والتابع رأسيًا؟

أصل المشكلة: جذور تاريخية ومنطق مختلف

لفهم هذه "المفارقة"، يجب أن نعود بالزمن إلى الوراء، تحديدًا إلى أواخر القرن التاسع عشر وإلى أحد أعمدة علم الاقتصاد الحديث: ألفريد مارشال (Alfred Marshall). في كتابه المؤثر والصادر عام 1890، "مبادئ الاقتصاد" (Principles of Economics)، والذي شكل مرجعًا أساسيًا لعقود طويلة، قام مارشال بترسيخ استخدام الرسوم البيانية لتوضيح نظريات العرض والطلب والتوازن.

هنا تكمن نقطة التحول. على عكس ما قد نفترضه اليوم (أن الكمية المطلوبة أو المعروضة هي التي تعتمد على السعر)، يبدو أن مارشال، في سياق معين على الأقل، كان يفكر في الأمر من زاوية مختلفة. يُعتقد أنه كان ينظر إلى السعر كمتغير تابع في سياق الإنتاج والعرض. أي أنه كان يتساءل: ما هو السعر اللازم لكي يكون المنتجون مستعدين لعرض كمية معينة في السوق؟ أو، من جانب الطلب، ما هو السعر الذي يجب أن يصل إليه الشيء لكي يرغب المستهلكون في شراء كمية محددة منه؟

بهذا المنطق، يصبح السعر (P) هو المتغير الذي يتكيف أو يتحدد بناءً على الكمية (Q) المرغوب إنتاجها أو استهلاكها. ووفقًا للتقليد الرياضي (حتى في ذلك الوقت كان وضع المتغير التابع رأسيًا هو الأكثر شيوعًا)، وضع مارشال السعر على المحور الرأسي (Y) والكمية على المحور الأفقي (X).

استمرارية التقليد: لماذا بقي الوضع على ما هو عليه؟

رغم أن المنطق الأكثر شيوعًا اليوم في تفسير دوال الطلب والعرض هو أن الكمية تابعة للسعر

مما يجعل وضع المحاور الحالي يبدو "خاطئًا" من الناحية الرياضية الصرفة، إلا أن تقليد مارشال استمر وتجذر لأسباب عدة:

  1. التأثير الهائل لمارشال وكتابه: كان كتاب "مبادئ الاقتصاد" لمارشال هو النص المهيمن لعقود، وتخرجت أجيال من الاقتصاديين وهم يستخدمون رسومه البيانية بهذا الشكل. أصبح هذا هو "الطبيعي" والمتعارف عليه في المهنة.
  2. الاعتماد على المسار التاريخي (Path Dependency): بمجرد أن يصبح تقليد ما هو المعيار، يصبح تغييره صعبًا ومكلفًا. يتطلب الأمر إعادة تعلم وتكييف للجميع، وإعادة طباعة للمناهج والكتب.
  3. القصور الذاتي التعليمي: يعلم الأساتذة بالطريقة التي تعلموا بها، والكتب الدراسية تتبع التقليد السائد لضمان القبول الواسع.
  4. الفعالية العملية: على الرغم من "الغرابة" النظرية، فإن هذه الرسوم البيانية تعمل بشكل جيد جدًا في تحليل الأسواق. فهي تسمح بسهولة برؤية توازن السوق، وفائض المستهلك والمنتج، وتأثيرات الضرائب والإعانات، وتحليل المرونات. الأداة، وإن كانت غير تقليدية في شكلها، فعالة في وظيفتها التحليلية.
  5. وجهة النظر البديلة: في بعض التحليلات المتقدمة (مثل دوال الطلب أو العرض العكسية حيث

يكون وضع السعر على المحور الرأسي منطقيًا تمامًا حتى من الناحية الرياضية.

  1. لغة مشتركة: أصبح هذا الرسم لغة بصرية موحدة يفهمها الاقتصاديون حول العالم. وقد يحدث تغييرها بلبلة أكثر مما يحل مشكلة.

رأي مانكيو والاقتصاديين المعاصرين (راجع هنا):

جريجوري مانكيو (N. Gregory Mankiw)، مؤلف أحد أشهر الكتب الدراسية في مبادئ الاقتصاد المستخدمة عالميًا اليوم، هو مثال جيد لكيفية تعامل الاقتصاديين المعاصرين مع هذا الإرث.

  • يتبع التقليد: في كتابه "مبادئ الاقتصاد الجزئي" (Principles of Microeconomics)، يضع مانكيو السعر (P) على المحور الرأسي والكمية (Q) على المحور الأفقي، تمامًا كما فعل مارشال وكما يفعل الغالبية العظمى من الاقتصاديين.
  • يعترف بالمفارقة: مانكيو، مثل العديد من المؤلفين الجيدين، لا يتجاهل الأمر. عادة ما يشير، ربما في حاشية أو مربع نصي، إلى أن هذا الوضع "غير معتاد" مقارنة بالرياضيات، حيث يكون المتغير المستقل عادة على المحور الأفقي.
  • يشرح السبب: يوضح أن هذا التقليد يعود إلى ألفريد مارشال وأسباب تاريخية. هو لا يجادل في صحة التقليد من عدمه، بل يقدمه كـ "عرف" قائم في علم الاقتصاد يجب على الطالب تعلمه وفهمه كما هو.
  • يركز على التطبيق: ينصب تركيز مانكيو وغيره من مؤلفي الكتب الدراسية على تعليم الطلاب كيفية استخدام هذه الرسوم البيانية كأدوات لتحليل المشاكل الاقتصادية، وليس على إصلاح "خطأ" تاريخي.

بشكل عام، يقبل معظم الاقتصاديين اليوم هذا الوضع كأمر واقع وجزء من لغة تخصصهم. قد يعلق البعض على المفارقة بابتسامة، لكن قلة قليلة تدعو بجدية لتغيير هذا التقليد الراسخ بسبب تكاليف التحول وعدم وجود فائدة عملية كبيرة من التغيير طالما أن الجميع يفهم المقصود.

إذًا، وضع السعر على المحور الرأسي والكمية على المحور الأفقي في رسوم العرض والطلب ليس خطأً مطبعيًا أو سوء فهم، بل هو إرث تاريخي يعود إلى ألفريد مارشال ومنطقه الخاص في وقته. ورغم أنه قد يبدو متعارضًا مع الممارسة الرياضية القياسية عند النظر إلى الكمية كدالة للسعر، فقد أصبح هذا التقليد هو المعيار المقبول والمستخدم عالميًا في علم الاقتصاد لفعاليته العملية وقوة العادة. الاعتراف بهذا الأصل التاريخي يساعد الطلاب والممارسين على تجاوز الارتباك الأولي والتركيز على استخدام هذه الأداة القوية لفهم كيف تعمل الأسواق.



 أ.د. عماد الدين المصبح

أستاذ الاقتصاد الكلي والقياسي


 العصبية: حجر الزاوية في صعود الدول وسقوطها - نظرة في فكر ابن خلدون

لا يزال فكر ابن خلدون يمثل منارةً تضيء لنا دروب فهم التاريخ السياسي والاجتماعي، خاصةً عندما يتعلق الأمر بدورة حياة الدول ونشأتها. ففي قلب نظريته، يبرز مفهوم "العصبية" كعامل محوري لا يمكن تجاهله عند تحليل كيفية قيام الدول وتطورها. تسعى هذه السطور إلى استكشاف دور العصبية في نشأة الدول وتعزيز شوكتها، وفقًا لما يطرحه ابن خلدون، مع إبراز أهمية هذا المفهوم في فهمنا المعاصر للديناميكيات السياسية.

تُعرّف العصبية بأنها الروابط الاجتماعية القوية التي تجمع الأفراد، سواء كانت هذه الروابط قائمة على القرابة، القبيلة، الدين، أو حتى المصالح المشتركة. هذا التعريف العميق يتجاوز مجرد الانتماء القبلي الضيق، ليشمل كل ما يُشكل شعورًا بالوحدة والهدف المشترك بين أفراد الجماعة. وهذه الوحدة، هي المحرك الأساسي لنشوء الدول.

فالعصبية، في جوهرها، هي قوة تضافر الجهود وتوحيد الصفوف. عندما تمتلك جماعة ما عصبية قوية، تصبح قادرة على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية بفاعلية أكبر. هذا التوحيد يظهر جليًا في القدرة على تشكيل جيش قوي للدفاع عن الأرض والمصالح، وفي تأسيس سلطة سياسية تعبر عن إرادة الجماعة ومصالحها. هذه السلطة، المدعومة بروابط عصبية متينة، تكون أكثر استقرارًا ورسوخًا، وتستطيع أن تنال شرعية أوسع من الشعب، مما يسهل عملية توسيع نفوذ الدولة وترسيخ أركانها.

لا يقتصر دور العصبية على مرحلة النشأة فحسب، بل يمتد تأثيرها ليشمل تعزيز شوكة الدولة واستمرار قوتها. فالعصبية القوية تُرسخ الاستقرار الاجتماعي، حيث يشعر الأفراد بالانتماء إلى كيان قوي يحميهم ويمثلهم. هذا الاستقرار يُسهل تطبيق القوانين ويقلل من الفوضى والاضطرابات، مما يوفر بيئة مواتية للتنمية والازدهار. كما أن الولاء الناتج عن العصبية يجعل الأفراد أكثر استعدادًا للدفاع عن دولتهم، والتجنيد في القوات المسلحة يصبح أسهل وأكثر فعالية، مما يعزز من قدرة الدولة على مواجهة التهديدات الخارجية. ولا ننسى دور العصبية في تسهيل إقامة التحالفات مع جماعات أخرى، مما يوسع من دائرة نفوذ الدولة ويعزز من قوتها الإقليمية والدولية.

إلا أن الفكر الخلدوني لا يغفل الجانب الآخر من الصورة، فيشير بوضوح إلى أن العصبية، على الرغم من إيجابياتها، قد تتحول إلى عامل هدم إذا تفككت الروابط الاجتماعية أو تعرضت للاختبارات الشديدة. ففي هذه الحالة، تظهر الفتن والنزاعات الداخلية التي تُضعف الدولة وتُمهد لسقوطها. وهذا يؤكد على أن العصبية ليست مجرد قوة دافعة في مرحلة النشأة، بل هي عامل حيوي يجب الحفاظ عليه وتنميته لضمان استدامة الدولة وقوتها.

وهكذا يتبين لنا أن العصبية تلعب دورًا جوهريًا في نشأة الدول وتعزيز شوكتها. إنها القوة الدافعة التي توحد الجماعات وتمكنها من تأسيس السلطة وتحقيق الاستقرار والازدهار. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن العصبية ليست عصا سحرية، بل هي عامل اجتماعي وسياسي معقد، يتطلب فهمًا عميقًا وإدارة حكيمة لضمان استمرار دوره الإيجابي في بناء الدول القوية والمستقرة. إن إحياء الوعي بأهمية العصبية، بمعناها الواسع الذي يشمل الوحدة والهدف المشترك، يظل ضروريًا لفهم تحديات بناء الدول المعاصرة وتجاوزها.


المشاركات الشائعة

إجمالي مرات مشاهدة المدونة